أنا موافق على أن يضعف البعض ويتحالف مع الطغيان والكذب والبهتان والنفوذ والسلطة، إما خوفًا وإما طمعًا وإما ندالة وإما وَطَيانا وإما ترددا وإما توترا وإما تشككا وإما إحباطا. لكن فى اللحظة الحاسمة لا بد أن يراجع نفسه ويسأل: هل أنا مع كذابين يُحِلُّون لأنفسهم الحرام من أجل السلطة ويكفِّرون المعارضين من أجل الفوز بالدنيا، ومع الجَهَلة العنصريين الطائفيين أم مع أصحابى القدامى الذين ينتصرون للحق والحرية والعدل؟ هذا المشهد الذى ستقرؤه الآن من كتابى «دم الحسين» أعتبره إنذارا أخيرا. «وقف الحرّ بن يزيد على فرسه، ينظر بعيون دامعة، وقلب واجف، وبدن مُرتعِد، برعشة أخذت عليه جسده، وأنهكت قلبه. يتحرك بفرسه دائرا حول نفسه، ملقيا نظراته على الصحراء الممتدة أمامه، وقد تَحكَّمت فيه أفكاره، وسيطرت عليه أحاسيسه. بدا كأنه ليس الحر بن يزيد، أقوى فرسان قومه، وأعظم قادة الكوفة العسكريين.. كانت حوافر الفرس تخبط فى الرمال، فتثير غبارا، وتفجر ترابا فوق تلك الربوة التى اعتلاها الحر.. وبين عُمْرين وحياتين وقَدَرَين ومستقبلَين، يتردد.. عن يمينه جيش الحُسَين بن علىّ بن أبى طالب، الحُسَين ابن النبى صلى الله عليه وسلم، يحاصره الجنود والحطب والقصب والخشب والنار والخيام، التى يتخذها ابن بنت رسول الله وقاية لظهره وحماية لأهله.. تتصلَّب عيونه فى هذه البقعة من (كربلاء) على ابن نبيِّه، ذلك الذى يُصلِّى عليه ويُسلِّم، ويرجو عفوه وشفاعته، ويُقاتل من أجل دينه، ويُعلى فى بنائه.. لكز الحر بطن فرسه وهو يسأل نفسه: ما الذى أوقعنى؟ مَن الذى قادنى إلى تهلكة نفسى، وبيع الدين بالدنيا؟! تَذكَّر أوامر عمر بن سعد، قائد جيش يزيد الزاحف بأربعة آلاف جندى وفارس يطلبون دم الحُسَين أو جرَّه إلى قصر الكوفة، حيث ينتظره زياد بن مرجانة، أمير يزيد بن معاوية على الكوفة، بدمامته، ووحشيته، وسوء خُلُقه، وسوأة خِلقته، يفترس عظم ابن النبى العظيم، وينهش فى لحم رسالته وحلم إمامته.. - ما الذى أوقفنى هنا يا أبناء الأفاعى؟ حدَّث الحر نفسه، وهو يلتفت إلى جيش عمر بن سعد، وحسم أمره، وأجبر شيطانه على التراجع.. - مقاتلٌ أنت هذا الرجل؟ (يقصد الحُسَين).. فأجابه عمر: - إى والله، قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدى.. ليست المسألة تهديدا لكى يتراجع الحُسَين عن طلب الخلافة، وليست مجرَّد إرهاب ليُسلِّم ليزيد بالبيعة.. إن الأمر جدٌّ، وإن الهلاك قادم، والحُسَين مقتول لا محالة، فهو يقف بين ثلاثين أو أربعين رجلا فقط من أهله وأنصاره وعشيرته. وحدَه فى هذه الصحراء الشاسعة القاتلة. خلفه النيران الناشبة فى خيامه، وأمامه أربعة آلاف فارس يقودهم الطامح إلى الإمارة، والأفَّاق، والمنافق، والمريض بالسُّلطة، والذى باع دينه مقابل كيس دراهم، والذى أجبره الخوف وأضعفته النَّفس السيئة، فاندفع لمقاتلة ابن النبى لا كذب، ابن علىّ بن أبى طالب، ابن فاطمة بنت محمد.. يا الله! ما أضْيَع النفس، وأضعف القلب، وأخفَّ الثقل يوم العرض على الميزان! سمع الحر حوافر فرس يقترب، وارتجاج جسد فوق ظهر الفرس، وهمهمة بعيدة تدنو. إنه المهاجر بن أوس، صاحبه ورفيقه فى رحلة الصحراء، وصفوف الجيش، وسكن الكوفة، والخروج لقتال (الدَّيلم)فَجرا، والصلاة فى المسجد، والتسبيح فى العشاء، وجلسات الشِّعر أمام نيران تدفئ القلب والصدور فى ليل الكوفة. زعق فيه المهاجر منتفضا فوق حصانه: - والله إن أمرك لَمُريب، والله ما رأيت منك فى موقف أبدا مثل شىء أراه الآن، ولو قيل لى مَن أشجع أهل الكوفة رجلا، ما اخترت غيرك، فما هذا الذى أرى منك؟! التفت إليه الحر وقال: - إنى والله أُخيِّر نفسى بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة شيئا ولو قُطِّعتُ وحُرِّقت! دفع الحر فرسه فانطلق بالحوافر وزغرد بالصهيل، والمهاجر يتابعه مندهشا مذهولا. ودخل بفرسه إلى حلقة الحُسَين الصغيرة المقاتلة الشجاعة المؤمنة. اقترب منه لاهثا، واثقا، مطمئنّا: - جعلنى الله فداك يا ابن رسول الله، أنا صاحبك الذى حبسك عن الرجوع، وسايرك فى الطريق. وإنى جئت تائبا مما كان منِّى إلى ربى، ومواسيا لك بنفسى، وحتى أموت بين يديك. أَفَتَرى ذلك لى توبة؟ نظر إليه الحُسَين ابن رسول الله، وقال: - نعم يتوب الله عليك، ويغفر لك.. ما اسمك؟ فقال: - أنا الحر بن يزيد.. قال الحُسَين: - أنت الحر كما سمَّتك أمك، أنت الحر إن شاء الله فى الدنيا والآخرة».