بعد الفرحة العارمة بافتتاح قناة السويس الجديدة، انهمرت الأسئلة حول المشروعات الاقتصادية التى يجب أن تشيد فى منطقة القناة، أو فى مناطق أخرى من مصرنا العزيزة، وكانت الأسئلة توجه إلى الدولة وأجهزتها فى ضرورة العمل بهمة لتكرار الإنجاز الذى حققته فى القناة، وهى أسئلة مشروعة لا ريب، ولكن لم يلتفت أحد إلى رجال الأعمال المصريين، وطالبهم بالإسهام فى إنعاش الاقتصاد المصرى بعمل مشروعات صناعية ثقيلة، تغنينا عن سؤال الكريم واللئيم، لا مصانع الاستهلاك الرخيص والربح السريع مثل «الشيبسى» وخلافه! لذا أتساءل لماذا لم تنجب مصر رجلا مثل طلعت حرب الذى تحل ذكرى رحيله الرابعة والسبعين بعد غد 13 أغسطس؟ ولماذا لم نحظَ طوال أربعة عقود -منذ عودة النظام الرأسمالى على يد الرئيس السادات- برجل اقتصاد مصرى يملك الفكر والرؤية والإرادة مثلما كان طلعت حرب؟ أنت تعلم وأنا أعلم أن طلعت حرب (مولود فى 25 نوفمبر 1867) تمكن من «تحرير» الاقتصاد المصرى نسبيا من رقبة الرأسمالية العالمية، وعلى رأسها بريطانيا التى كانت تحتل البلاد، وذلك من خلال تأسيسه بنك مصر عام 1920، وهو أول بنك بأموال مصرية خالصة، ليزاحم به البنوك الأجنبية التى استحوذت على أموال المصريين، ثم شرع فى تأسيس شركات كبرى تحمل كلها اسم مصر، مثل شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى 1927، وشركة مصر للطيران عام 1932، وشركة مصر للتأمين، وشركة مصر للسياحة عام 1934 وغيرها. لكن يظل تأسيسه لاستوديو مصر عام 1935 أحد أهم وأخطر إنجازاته، لأنه أسهم فى تعزيز صناعة السينما لدينا، والسينما كما تعلم تسهم فى صناعة الوجدان الجمعى للشعوب، وقد أنتج استوديو مصر عشرات الأفلام المهمة الجميلة التى ما زالت تعرض حتى الآن فى الفضائيات، وقد تعلم فى هذا الاستوديو كبار مخرجينا أمثال صلاح أبو سيف وكمال الشيخ وبركات وحلمى حليم. صحيح أن ثورة يوليو خاصمت النظام الرأسمالى بشكل ما، وأصدرت قرارات تأميم طالت القطاع الخاص، لكن الأمر تغير منذ عام 1974، واستردت الرأسمالية المصرية أنفاسها، فلماذا حرمتنا الأيام من رجل مثل طلعت حرب؟ فى ظنى أن هذا الاقتصادى الفذ كان ابنا بارا لثورة 1919، تلك الثورة المدهشة التى انتشلت المصريين من مستنقع العصور الوسطى المتخلف فكريا وثقافيا واقتصاديا، وقذفت بهم إلى العصر الحديث، فأنجزوا فى عقدين فقط ما حققته شعوب أخرى فى قرون، لكن رجال أعمال السادات ومبارك وما بعدهما لم يكونوا أبناء ثورة زلزلت الأرض، وإنما مجرد تجار «شطار» لا يملكون فكرا ولا رؤية ولا همًّا بالوطن وناسه، وإنما يسيل لعابهم على الربح السريع فقط، إلا فى ما ندر! أتأمل قناة السويس الجديدة... وأتفرس فى رجال أعمالنا... وأتذكر طلعت حرب... وأغمغم... يا خسارة!