الدول مثل الأفراد، تتباين فى ما تمتلكه من عناصر القوة تباينا شاسعا. فكما يختلف البشر فى طول القامة وبنية الجسم ولون البشرة، وأيضا فى قوة العقل ومقاييس الذكاء ونبل المشاعر والأحاسيس. وكذلك فى مستويات المعيشة والثقافة والتعليم، تتباين الدول أكثر من حيث المساحة وعدد السكان، وطبيعة الموقع الجغرافى والثروة الطبيعية، وأيضا فى درجة التقدم العلمى والتكنولوجى والقوة العسكرية والاقتصادية، وكذلك فى مستوى كفاءة المؤسسات السياسية والاجتماعية.. إلخ. غير أن العبرة فى النهاية ليست بحجم ما يمتلكه الأفراد أو الدول من عناصر القوة على اختلاف أنواعها، ولكن بكيفية استخدامها على النحو الذى يحقق الأهداف المرجوة من هذا الاستخدام. فأكثر الأفراد بسطة فى الجسم والعقل ليسوا هم بالضرورة الأقدر على تحقيق أهدافهم، أو الأكثر حظا فى تحقيق نوعية الحياة التى يرجونها. وكذلك الحال بالنسبة إلى الدول، فأقوى دول العالم عسكريا أو اقتصاديا ليست بالضرورة أقدر هذه الدول على تحقيق طموحات شعوبها أو حتى أوفرها حظا فى تحقيق أمنها الوطنى. يميز الأكاديمى الأمريكى المعروف جوزيف ناى، والمشهود له عالميا بأنه من بين أكثر خبراء العلاقات الدولية والسياسة الخارجية تأثيرًا على مستوى العالم، بين ثلاثة أنواع أو مستويات من عناصر القوة: 1- القوة الخشنة: hard power: ويقصد بها مجمل عناصر القوة المادية، خصوصا العسكرية والاقتصادية، التى تحشد فى مواجهة الخصم، بهدف إلحاق الهزيمة به وإجباره على الاستسلام الكامل، أو على تقديم التنازلات المطلوبة، أو ردعه عن القيام بعمل أو بمبادرة ما لا يراد له القيام بها. 2- القوة الناعمة: soft power: ويقصد بها عناصر القوة المادية أو المعنوية التى يقصد بها ممارسة تأثير أو نفوذ ما على الخصم، بما يكفى لإقناعه طواعية بممارسة السلوك المطلوب أو انتهاج السياسة المرغوبة، دون أن يشعر أنه مضطر إلى ذلك. من أهم هذه العناصر: قوة الثقافة والفكر والإبداع، والتفاوض والمهارات الدبلوماسية بمختلف أنواعها، وجاذبية النموذج ونمط الحياة والنظام القيمى.. إلخ. 3- القوة الذكية: smart power: ويقصد بها «خلطة» أو مزيج مركب من عناصر «القوة الخشنة» و«القوة الناعمة» تتغير فى كل مرة حسب نوعية الموقف أو الأزمة، وبما يكفى لتعظيم الفوائد المرجوة أو تقليص الخسائر المتوقعة إلى أقصى درجة ممكنة. كان جوزيف ناى قد صك مصطلح «القوة الناعمة» قبل أكثر من عشرين عاما، ولقى فى حينه رواجا هائلا. ولأنه مصطلح أسىء فهمه أو استخدامه أحيانا، خصوصا من جانب رجال إدارة جورج بوش الابن، قرر صاحبه تأليف كتاب كامل، نُشر عام 2004، شرح فيه رؤيته تفصيلا حول هذا الموضوع للتأكيد أنها تتناقض كليا مع السياسة الخارجية التى كانت تنتهجها إدارة بوش الابن فى ذلك الوقت، مما أتاح له فى الوقت نفسه فرصة لصك مصطلح جديد، ما لبث أن لقى بدوره انتشارا واسعا، ألا وهو مصطلح «القوة الذكية». وقد تُرجم هذا الكتاب إلى العربية، ونشر عام 2010 تحت عنوان «القوة الناعمة: وسيلة النجاح فى السياسة الدولية». رغم أن هذا الكتاب ينصب على الطريقة التى يتعين أن تدار بها السياسة الخارجية، فإننى أعتقد أن فيه أيضا ما يفيد لترشيد أداء السياسة الداخلية، خصوصًا عندما تكون فى حالة استقطاب مماثلة للحالة المصرية. لذا أنصح رجال «السيسى»، هؤلاء الأشباح الذى لا نعرف عنهم شيئا، لكننا ندرك يقينا أنهم يسيرون على نهج مماثل لنهج إدارة بوش الابن، أن يقرؤوا هذا الكتاب لعله يساعدهم على الاقتناع بضرورة تصحيح المسار قبل فوات الأوان.