«الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة» عنوان كتاب للدكتور فؤاد زكريا الذي توفى في مثل هذا اليوم 11 مارس 2010، الكتاب به رسالة من مفكر كبير عرف بشجاعة العقل والضمير إلى قادة ومفكري الاتجاهات الدينية وإلى قواعدها وجماهيرها من أجل التبصر وتحكيم العقل والمصلحة الوطنية في كل ما يمس قضايانا الجوهرية. ففي الظروف العصيبة التي تمر بها بلدنا الحبيبة هذه الأيام يتحتم على كل المصريين إعادة قراءة هذا الكتاب بتمعن ودراسته بكل جدية. يقول د. فؤاد زكريا: إن دعاة تطبيق الشريعة يرددون عبارات ذات تأثير عاطفي هائل على الجماهير، ونتيجة لهذا التأثير العاطفي تمر هذا العبارات دون أن يتوقف أحد لمناقشتها، وتتناقلها الألسن محتفظة بمحتواها الهلامي، حتي تشيع بين الناس وكأنها حقائق نهائية، مع أنها في ضوء التحليل العقلي عبارات مليئة بالغموض والخلط. ويناقش عبارتين: الأولى:الحكم الإلهي في مقابل الحكم البشري، فيؤكد أن الحكم عملية بشرية أولا وأخيرا، وأن الرجوع إلى نصوص إلهية لا يحول دون تدخل العنصر البشري في اختيار النصوص الملائمة وتفسيرها بالطريقة التي ترضي مصالح الحكم، على نحو ما كان يحدث طوال معظم فترات التاريخ. ففي عصر النبوات وحده كان يجوز الكلام عن حكم إلهي، أما طوال التاريخ اللاحق الذي انتهى فيه ظهور الرسل والأنبياء، فإن مهمة الحكم أصبحت بشرية وستظل بشرية حتى لو كانت الأحكام التي يُرجع إليها إلهية. أما العبارة الثانية التي يختلط معناها في الأذهان، فهي صلاحية أحكام الشريعة لكل زمان ومكان. فلا يوجد نص ديني مباشر يحمل هذا المعنى. والتفكير في هذه العبارة بتعمق يكشف فيها عن تناقضين: الأول يرجع إلى أن الإنسان كائن متغير، ومن ثم ينبغي أن تكون الأحكام التي تنظم حياتة متغيرة. فقد طرأت على الإنسان تغيرات أساسية في الزمان، منذ العصر الحجري حتى عصر الصواريخ، كما طرأت عليه تغيرات جوهرية في المكان، ما بين بيئة الجزر الاستوائية البدائية وبيئة المدن الصناعية الشديدة التعقيد. أما التناقض الثاني فهو إذا كان الله قد استخلف الإنسان في الأرض، وكرمه على العالمين. فهل يتمشى هذا التكريم والاستخلاف مع تحديد المسار البشري مقدما، ووضع قواعد يتعين على الإنسان ألا يخرج عنها مهما تغير وتطور؟ ألا يعني ذلك الحجر على الإنسان والحكم عليه بالجمود الأبدي. فقضية «الصلاحية لكل زمان ومكان» تحتاج إلى إعادة تفسير شاملة، في ضوء تلك الحقيقة التي أصبحت الآن من بديهيات العقل والعلم: وهى أن في الميدان البشري، لا شئ ثابت أو نهائي. ولقد اعترف الكثيرون بهذه الحقيقة، ولو بصورة ضمنية، حين ميزوا بين أحكام الشريعة العامة وبين تطبيقاتها، وأكدوا أن الحكم العام يقبل تفسيرات ينبغي الاجتهاد فيها حسب متطلبات كل عصر. وهذا موقف سليم، ولكن ينبغي أن نتنبه جيدا إلي النتائج التي تترتب عليه: فكلما ازداد العصر تعقيدا، وكلما جدت عليه متغيرات علمية وتكنولوجية واجتماعية واقتصادية...إلخ.. كان معنى ذلك أن دور الاجتهاد يتزايد، ودور المبدأ العام يتناقص. وبقدر ما تزداد المسافة اتساعا- من الناحيتين الزمنية والحضارية- بيننا وبين عصر نزول الوحي، تزداد أهمية الاجتهاد البشري. إن الدعوة التي تعلو صوتها إلى تطبيق الشريعة، ترتكز على قاعدة جماهيرية واسعة. وكثير من أنصارها يتخذون من سعة الانتشار هذه حجة لصالحها. إلا أن اتساع القاعدة الجماهيرية التي تنادي بمبدأ معين لا يمكن أن يكون مقياسا لنجاح هذا المبدأ إلا في حالة واحدة فقط: هي تلك التي يكون فيها وعي الجماهير ناضجا كل النضج. وقد أثبتت تجارب واقعية كثيرة أن انعدام الوعي أو تزييفه يمكن أن يؤدي إلي التفاف الجماهير حول أمور لا يمكن أن تكون لها قيمة في ذاتها. إن الانتشار الواسع للاتجاهات الإسلامية بشكلها الراهن إنما هو مظهر صارخ من مظاهر نقص الوعى لدي الجماهير. فمع أنتشار الأمية وبعد عقود من القهر، يصبح هذا الانتشار أمرا لا مفر منه. وبعد سنين من السياسة المتخبطة إزاء التيارات الدينية: المنع الشديد من جانب، والتأييد من جانب آخر، الاضطهاد اللانساني من ناحية، والتقريب والترغيب من ناحية أخرى يصبح من الطبيعي أن يبحث الملايين من الناس عن أقرب البدائل إلى نفوسهم وأقلها احتياجا إلى التفكير والجهد العقلي. والحق أن أيه جماعة تود أن تكون إسلامية حقا، ينبغي عليها أن تعطي الأولوية، لا للعودة بالتشريعات إلى ما كان سائدا في عهود مضت، بل لإزالة ما علق بهذه التشريعات في العهود الاستبدادية من شوائب وما فرض عليها من استثناءات أصبحت بمضي الوقت هي القاعدة. إن ما يحتاج إليه المجتمع الإسلامي حقا هو مراجعة قوانينه بحيث تصبح قادرة على معالجة مشكلات الحاضر، ومواجهة تحديات المسقبل، وبحيث يستبعد منها ما هو دخيل وما هو قمعى ظالم. ومع ذلك فإن النظرة التراجعية، التي تركز على العودة إلى الماضي، هي التي تطغى على تفكير الجماعات الإسلامية الحالية، بينما تختفي تماما أية نظرة واقعية أو مستقبلية. وللحديث بقية...