ما هى إلا ساعات على حكم المحكمة فى مذبحة استاد بورسعيد، حتى اندلعت الحرائق فى القاهرة فى مبنى نادى الشرطة والاتحاد المصرى لكرة القدم، وكان رد الفعل فى بورسعيد أكثر هدوءا على غير المتوقع، وبدأت جماعات الأولتراس فى القاهرة وأهل بورسعيد فى مناقشة الحكم ووصل كل منهما إلى استنتاج مؤداه أن الحكم مسيس، أى تدخلت فيه السياسة عبر إخراجه بشكل متوازن أو متعادل على نحو لا يرتب ردود فعل غاضبة. القضية هنا ليست تسييس الحكم من عدمه، بل هى لماذا أصبح التشكيك فى القضاء ظاهرة عامة؟ ولماذا لم يعد للقضاء المصرى هيبته التى كان يتمتع بها حتى وقت قريب؟ ولماذا لم يعد بسطاء المصريين يتعاملون مع أحكام القضاء باعتبارها عنوان الحقيقة كما كان يتردد؟ لماذا لم تعد العدالة المصرية «مغمضة العينين ممسكة بالميزان، فلا ترى فوارق بين المواطنين، فهى تزن الأمور من منطلق القانون والعدل والحق ولا تتوقف أمام جنس، أو لون أو دين المواطن ولا طبقته الاجتماعية، بل يجرى تطبيق القانون على الجميع، صحيح كانت هناك حالات تضغط فيها السلطة على القضاء لإصدار أحكام مخففة أو مشددة، لكن القضاة الشرفاء كانوا يرفضون التوجيهات السياسية وكثيرا ما كانوا يفضحون تدخل النظام، وبصفة عامة كان يمكن القول إن حركة استقلال القضاء كانت من بين الحركات التى فضحت نظام مبارك وتصدت إلى محاولات تغول سلطته على السلطة القضائية ولعبت دورا فى مقاومة محاولات الهيمنة من قبل السلطة التنفيذية. سقط نظام مبارك وسادت توقعات بترسيخ دولة القانون والمؤسسات. دولة الفصل بين السلطات والتوازن فى ما بينها.
دولة تحقيق العدالة الاجتماعية مع صيانة الكرامة الإنسانية للمواطن المصرى الذى تغنى بثورته أحلم بها أن تنهى معاناته وتهميشه وتنتهى معها دولة الظلم والطغيان وتهميش الفقراء. ما حدث كان عكس كل ذلك فقد اتجهت جماعة الإخوان منذ اليوم الأول لتنحى مبارك إلى إبرام الصفقات على حساب دماء الشهداء، سعت إلى الجلوس على كراسى السلطة دون تغيير المعادلة، عملت بكل قوة على التمتع بسلطات مبارك. بدأ ذلك فى مجلس الشعب الذى سيطر عليه تيار الإسلام السياسى، ووصل إلى الذروة بتقدم مرشح الجماعة الاحتياطى الدكتور محمد مرسى، فما أن أعلن فوزه حتى بدأ فى استهداف مؤسسة القضاء، ناور بقوة كى لا يؤدى القسم أمام المحكمة الدستورية العليا، وجه اتهامات صريحة إلى المحكمة بالتآمر على الثورة، خاطب بسطاء المصريين قائلا لهم إن القضاء المصرى يعى الثورة ويخطط لإجهاضها ويدبر المؤامرات عليها وإن بعض القضاة يجتمعون فى الخفاء لتدبير الشر للثورة، زادت لغة المؤامرة فى حديث الرئيس المنتخب وجرى توجيهها بالأساس إلى القضاء المصرى، وأرجع مرسى حالة الاضطراب والعجز التى يعانى منها نظامه إلى مؤامرات القضاء، حملت الجماعة ومندوبها فى قصر الرئاسة، القضاء المصرى مسؤولية عدم تحقيق إنجاز يذكر فى مجالات العدالة الانتقالية والاجتماعية وروجوا للقول بأن هناك مخططا لإفشال الرئيس. وعندما أصدرت المحكمة قرارها ببطلان بعض مواد قانون انتخابات مجلس الشعب، ومن ثم حل المجلس، جرى تصوير القرار من الجماعة ومؤسسة الرئاسة على أنها مؤامرة لحل المؤسسات المنتخبة، وتوالت الاتهامات على المحكمة، وعندما شرعت المحكمة فى تطبيق نفس القواعد على مجلس الشورى والبت فى مصير الجمعية التأسيسية، أعطت الجماعة الأوامر إلى أفرادها والتيار السلفى بمنع المحكمة بالقوة من نظر مصير «الشورى» و«التأسيسية»، وانتهى الأمر بحصار ميليشيات الجماعة للمحكمة الدستورية العليا فى خطوة لم تتخذها سوى أعتى النظم الفاشية فى العالم، وجرى منع المحكمة بالفعل، وأصدر مرسى إعلانه الدستورى المثير للجدل، واستمرت الجماعة فى كيل الاتهامات إلى القضاء المصرى ودخلت فى مواجهة مع نادى القضاة وزرعت فى عقول ونفوس أنصارها أن قضاء مصر مسيس ضد الثورة، يعمل على عرقلة أهداف الثورة ويكبل يدىّ مرسى من تحقيق أهداف الثورة، والحقيقة أن القضاء المصرى كان يدافع عن دولة القانون والمؤسسات، يخوض معركة شرسة مع جماعة غير شرعية خططت لاختطاف مصر وتحويلها إلى إمارة على غرار أفغانستان طالبان، كان القضاء المصرى يدافع عن دولة عمرها أكثر من خمسة آلاف سنة، يدافع عن دولة القانون والمؤسسات ويتصدى إلى محاولات هدمها.
طال القضاء المصرى الكثير من التشويه المتعمد والاتهامات الباطلة، باختصار أهانت الجماعة ومندوبها فى قصر الرئاسة القضاء المصرى وشوهته، فهان القضاء فى عيون بسطاء المصريين على النحو الذى نراه فى أعقاب إصدار الأحكام، فالموقف من الأحكام لم يعد مبنيا على تطبيق القانون بقدر ما بات وفق توقعات البسطاء ورؤيتهم للقضاء بأنه مسيس ويمكن أن يحكم بالأهواء ويتلقى التعليمات من خارج منظومة القضاء، من هنا نفهم ردود الفعل فى القاهرة وبورسعيد على أحكام مجزرة استاد الكرة، مع ملاحظة أن غياب الشرطة وتولى الجيش ضبط الأمن فى المحافظة أدى إلى ضبط ردود فعل البورسعيدية احتراما للجيش وانتظارا لتخفيف الأحكام فى الأيام القادمة.