ألقى فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر، كلمة بمناسبة الاحتفال بليلة القدر، والذي حضره رئس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، وإلى نص الكلمة: إنَّ ليلةَ القدرِ – كما يقولُ الله تعالى- هي «خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ»، وهي الليلة المباركة كما أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم: «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ» {الدخان: 3}، وقد ارتبطت هذه الليلة بنزول القُرآن فيها، ونالت شرفها من شرفه، واستمد رمضان كله فضله وخيره وبركته من ملامسة لياليه لهذه الليلة الكريمة.. وإذا كان المسلمون متفقين على أنَّ القُرآنَ نزَل في ليلةِ القدرِ، انطلاقًا من قوله تعالى: «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»، فإن تفسير النزول في هذه الليلة قد جاء على وجهين: فهل نَزَلَ القُرآن جُملةً واحدةً من اللَّوْحِ المحفوظِ إلى مكانٍ ما، ثُمَّ تنزَّلت آياتُه بعد ذلك مُفرَّقة طوالَ ثلاثةٍ وعشرينَ عامًا هي مدَّةُ رسالة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة، أو أنَّ معنى نزوله هو ابتداءُ نُزولِه في هذه الليلةِ ثم تَتابَعَ النزولُ بعدَ ذلك.. والقَدْرُ الذي أُضِيفَ إلى هذه الليلةِ وشُرِّفَتْ به هو: «التقديرُ» بمعنى «التمييز» بين الخيرِ والشرِّ، والحقِّ والباطِل، وهو التكليفُ الذي مَيَّزَ اللهُ به الإنسانَ من باقي مخلوقاتِه، ورفَع به قدرَه، ومن أجله حمَّله المَسؤوليَّةَ عمَّا كُلِّفَ به من عملٍ، وعن نيَّته التي تسبقُ أعماله ويُناط بها حُسنُها أو قُبحها: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَتِهِ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ». ويأتي العمل الذي يمثل حجر الزاوية في بناء الأمم ونهضة الشعوب في مقدمة ما كلف به الإنسان في تعاليم القرآن الكريم الذي أنزل في ليلة القدر. ويُخطِئ مَن يظنُّ أنَّ عملَ الخير الذي فرَضَه الله على الناسِ في هذه الليلةِ، هو العملُ المُختَصُّ بالعِبادة، والمُتعلِّق منه بأركانِ الإسلام من صَلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجٍّ وعُمرةٍ، وأنَّ المُسلمَ إذا أدَّى ما عليه من فرائضَ وسُنَنٍ ومندوبات فقد أصبَحَ في حلٍّ من أن يَعمَلَ أو لا يَعمَل، أو يَتكاسَل في عَمَلِه، أو يَخُونَ الأمانةَ فيما أُسنِدَ إليه من أعمالٍ تتعلَّقُ بحياةِ الناس ومجتمعهم.. إنَّ هذا الاعتقادَ الخاطئٌ، يَقَعُ فيه - للأسف - كثيرٌ من العامِلين والمُوظَّفين والمسؤولين وأساتذةِ الجامعات والطلاب والطالبات، بل وكثيرٌ من العُلَماء الذين يَتَصدَّرون لتعليم الدِّين للناس ونذروا أنفسهم للدعوة إلى الله، وشيئًا فشيئًا تكرَّس في وجداننا هذا الانفصام الرديء المغلوط، بين قِيمَةِ العبادات، وقِيمَةِ العملِ مع تساويِهِما في المسؤوليَّةِ أمامَ الله تعالى.. إنَّ هذا القُرآنُ الكريمُ الذي أُنزِل في ليلة القدر وردت به كلمةُ «العمل» ومُشتقَّاتها في (371) آية من آياتِه الكريمةِ.. وقد وردت كلُّها بمعانٍ مُطلَقة تسوِّي بين أعمال العبادات وأعمال المُعاملات في التكليف وفي المسؤولية وفي الجزاء. ولكم أن تَنظُروا - أيُّها السادةُ - في أيِّ مرجعٍ من مراجع الفقه في شريعة الإسلام لتجدوا أن كل مرجع منها ينقسمُ إلى قِسمين مُتَلاصقَيْن مُتَجاوِرَيْن: * الأوَّل: قسمٌ لأبواب العبادات من طَهارةٍ وصَلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحجٍّ وزواجٍ وطلاقٍ.. * ثُمَّ قسمٌ لأبواب المعاملات من تجارةٍ وزراعةٍ وصناعةٍ وقضاءٍ وجناياتٍ.. وسيلفت نظركم أنَّ قسم العِبادات يَشغلُ رُبعَ مِساحة الكِتاب، بينما يشغل العمل والمعاملات ثلاثة أرباع مساحته.. ممَّا يدلُّنا على عِظمِ أمر العملِ في الإسلام، وأنَّه أمر لا تغني عنه العبادات بحال، بل هو والعبادة أمران ممتَزِجانِ ومُتداخِلانِ تمامَ التَّداخُل. ولا يُفرِّقُ الإسلامُ في نَظرتِه للعمَلِ بين نوعٍ ونوعٍ، يَنظرُ لأحدِهما نظرةَ تقديرٍ واحترامٍ، وينظُر للآخَر نظرةَ استعلاءٍ واستِهجانٍ، فلا فرقَ في قيمةِ العمَلِ في الإسلام بين أعمالٍ مِهْنِيَّةٍ أو تجاريَّةٍ أو إداريَّةٍ أو زراعيَّةٍ أو صِناعيَّةٍ، وإن كُنَّا نلمحُ بوضوحٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَنحازُ إلى العمَلِ اليدويِّ ويخصُّه بمزيدٍ شرَف وفضلِ.. وذلك حينَ سأَلَه أحدُ أصحابِه عن أفضَلِ الكسبِ - أي: أفضل العمَلِ - فقال صلى الله عليه وسلم: «بَيْعٌ مَبْرُورٌ، وَعَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ». وقال أيضًا: «لأَنْ يَحْتَزِمَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً مِنْ حَطَبٍ فَيَحْمِلَهَا عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ»، أي: «خيرٌ له من أن يَسأَلَ غيرَه» حتى لو كان هذا الغيرُ أبًا أو أُمًّا أو أخًا أو أُختًا. وقال في حديثٍ آخَر: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ»، فقد كان عليه السلام يصنع الدروع بيده ويبيعها، رغم أنَّه كان ملكًا عظيمًا. وإنَّ المرءَ ليُدهَشَ كثيرًا وهو يُقارِنُ بين نظرةِ الإسلام للعملِ اليَدَويِّ، وبين التَّفرِقةِ الجائرةِ في فلسفةِ الحضارات الأُخرى بين عملٍ وعملٍ. فقد عاشت طبَقةُ الفلَّاحين والزُّرَّاع في حضارةِ اليونان حالةً سيئةً من الظُّلم والاضطهاد، وكان الفلاحُ الذي يعجزُ عن دَفعِ أُجرةِ الأرض التي يَزرَعُها يُباع هو وزوجتُه وأولادُه بَيْعَ الرَّقِيقِ! وفي الحضارةِ الرُّومانيَّة كان الفلَّاحون والتُّجَّارُ وأصحابُ المِهَنِ الحُرَّةِ محرومين من حُقوقِهم؛ يَستَذِلُّهُم الرُّومانُ ويَستَضعِفونهم ويُجنِّدُونَهم في أعمالِ السُّخرَةِ. ولم يكن الحالُ بأسعدَ حظًّا في حضارةِ الفُرس، أو الحضارةِ المصريَّةِ القديمة، بل في حضارةِ العرَبِ أنفُسِهم؛ حيث اعتَبَرُوا مهنةَ التجارةِ والرَّعيِ أفضلَ المِهَنِ وأشرفَها، بينما أَنِفُوا من مِهنة الزراعة والصناعة وترَكُوها للمَوالي والعَبِيد. وهنا يسجل التاريخ أنَّ الإسلام حين ظهر للوجود قضى على هذه التفرقة، ورفع من شأن العمل أيًّا كانت صورته، وأنَّ نبي الإسلام كان يفخر بأنه أجيرًا في مهنة الرعي، وتاجرًا لخديجة أم المؤمنين رضوان الله عليها.. كما كان يفخر أيضًا بالعمل في خدمة أهله بالمنزل، وبمشاركته أصحابه في حفر الخندق حول المدينة في الغزوة المعروفة. والعمَلُ في الإسلام لا يصنَّف في قائمة الحقوق التي يجوز التنازل عنها، إنَّه تكليفٌ إلهيٌّ يبلغُ حَدَّ الوجوبِ، بل إنَّ قيمته لتسمو لتُكافئ قيمةَ الجهاد في سبيل الله، وقد رُويَ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ مع أصحابِه برجلٍ فرَأَى الصحابةَ من جُهدِه وعرَقِه وقوَّته في العملِ ما أثارَ إعجابَهم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، لو كان هذا في سبيلِ الله؟ فقال - عليه السلام -: « إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ». وإنْ تَعْجَبُوا أيُّهَا السَّادة الفُضَلاء فاعجبوا لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث يجب أن نتوقف عنده ونتأمله طويلًا، يذهب فيه نبي الإسلام إلى أبعد مدى، يمكنُ تصوَّره في إيجاب العمل على المسلم في كل الظروف والأحوال والملابسات، وذلك فيما يرويه أنس بن مالك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ ألَّا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ». وانظروا كيفَ يُؤَسِّسُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للعَملِ بحسبانه قِيمَة موضوعيَّة تَستَمِدُّ شَرَفَها مِنْ ذاتِها وليس من ظُروفِ الزَّمانِ ولا أحوالِ المكانِ.. وإنَّ المُتأمَّلَ ليتساءلُ: أيَّة فائدةٍ تترتَّبُ على غَرسِ هذه الفسيلَة، والأرض تتبدَّلُ غير الأرض في هذه اللَّحظة؟ وكيفَ يتوجَّهُ الخِطابُ بالأمرِ بالغرْسِ لشخصٍ ذاهِلٍ مِنْ هَوْلِ القيامةِ؟ وهذا الغَرْسُ لِمَن والقيامة تقومُ؟ وهل سيبقى الغرسُ ليُؤتِي أُكُلَه أو هذا العمل لا يلبث أن تعصِف به عواصف القيامة؟. إنَّ كلَّ ملابساتِ الموقف في هذا الحديث تحكم بأنَّ عملًا كهذا في وقتٍ كهذا لا طائلَ من ورائه، ومع ذلك يأتي التَّوجيهُ النَّبويُّ العظيم: «فَإِنْ اسْتَطَاعَ أنْ يَغرِسها فليغرسها» لِتَعلَم الأُمَّة بأسرها أنَّ «العملَ» في حَدِّ ذاتِه واجب شرعي يُكَلَّف به المسلم، ما بَقِيَ فيه نفسٌ يَتردَّدُ وما بَقِيَ عُمر الكَونِ ساعة أو لحظة. وإذا كان الإسلامُ قد فرَض العمَلَ وأوجَبَه على كلِّ مسلمٍ قادرٍ، فإنَّه حارَبَ البطالة والتَّبَطُّل، ونهى عن التواكُل والرُّكون إلى الدَّعةِ والكسَلِ، وفرَضَ على المسلمِ أن يَنزِلَ إلى سُوقِ العمَلِ، ليُمارِسَ أيَّ عملٍ يدرُّ عليه دخلًا يَكفِي حاجتَه، ويُحقِّقُ به لوطَنِه نفعًا ومصلحةً، وقد ذهَب النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى أبعد مدًى في مُحاربة البطالة، وما يترتَّب عليها من آثارٍ سلبيَّةٍ، ومضارَّ نفسيَّةٍ على الفَرْدِ والمجتمعِ؛ فنهَى عن السؤال، ونهى عن تَرْكِ العمَلِ حتى لو كان بحُجَّةِ التفرُّغِ للعِبادةِ، وقد ورد في تراث المسلمين أن عيسى بن مريم عليه السلام لَقِيَ رَجُلًا، فَقَالَ لَهُ: مَا تَصْنَعُ؟ قَالَ: أَتَعَبَّدُ. قَالَ: مَنْ يَعُولُكَ؟ قَالَ: أَخِي. قَالَ: «أخوك أَعْبَدُ منك». وقد نهى الإسلامُ عن تكليفِ الصِّغارِ بأعمالٍ مُرهِقة؛ فقال - عليه الصلاة والسلام -: «ولا تُكلِّفوهم ما لا يُطيفون، فإن كلَّفتموهم فأعينوهم»، وأجازَ عملَ المسلم عند غيرِ المسلم، ونهى عن الغشِّ وعن سَرِقَةِ الوقتِ في العمل، ولفُقَهائنا الأجلَّاء كلامٌ طويلٌ في هذه المسألة ما أحوَجَنا إليه الآن، وهو أنَّ الشريعةَ تُوجِبُ على العامِلِ المسلم أن يملأ بعمله كل الفترة الزمنيَّة التي يَشترطها التعاقُد أو التوظيفُ، وتُحرِّمُ عليه أن يُضيِّع لحظة واحدة منها، فإنْ تَشاغَلَ العاملُ أو تهرَّب أو نام أو تلهَّى فإنَّه يكون خائنًا لربِّ العمل أو للدولة وآثمًا عند الله؛ قال تعالى: «إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا»{النساء: 107}. ونحن نقرأ في مُتون شريعةِ الإسلام «أنَّ الأجير (وهو الموظَّف أو العامل بلُغة اليوم) إذا قرَأ القُرآنَ أثناء عمَلِه، وأضرَّت القِراءةُ بالعمل فإنَّ لصاحب العمل أو للدولة مطالبة العامل بقيمةِ ما فوَّت من العملٍ بسبَبِ قراءةِ القُرآن، أو تُستقطع القيمةَ من الأجرة، وكذلك إن تأخَّر العامل في إنجاز عملِه عن المُدَّة المُبيَّنة فإنَّ عليه أن يُعوِّضَ الضَّرَرَ الذي لَحِقَ بصاحب الصَّنعة». كما فرَض الإسلامُ على المُسْلِم العاملِ إتقانَ العملِ، وإخراجَ المُنتَجِ في أكمَلِ صورةٍ وأحسَنِ وجهٍ، قال تعالى: «وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» {النحل: 93}، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلا أَنْ يُتْقِنَهُ»، و«مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا». ويقول العلماء: إنَّ رضا الله - تعالى - يَنزِلُ على العامل بحسَبِ إتقانه لعمَلِه، ويَتضاعَفُ الرِّضا وتزدادُ الحسنات كُلَّما ازدادت درجةُ إتقان المُنتَجِ ودقَّتُه وجودتُه.. وهنا دُرَرٌ غوالٍ مكنوزةٌ في بُطون تُراثنا العظيمِ لا يتَّسِعُ المقامُ لسَردِ بعضِها، تتعلَّقُ بترغيبِ العامل في العمل الجادِّ المُتقَنِ، وتنفيرِ المسلم من البطالة والكسل أو التساهل في قدسيَّة العمل والجُهدِ والعرَقِ، أو التقليل من دورِه الحاسم في بناء الاقتصادِ وتنميةِ المجتمعِ، وتجديد الحياة، وإعداد المواطنين وتأهيلهم لمواجهة التحدِّيات، وتجاوُز الصعاب، وكلُّ ذلك انطلاقًا من دور الإنسان في الأرض كخليفةً عن الله - تعالى - وكمسؤول عن إعمار الكون وإصلاح ما يَفسُد فيه.. وهذا هو الفرق الحاسِمُ بين فلسفة العمل في الإسلام، وبين النَّظريَّات والقوانين التي تَصُوغُ علاقة العامل بالعمل في موادَّ جافَّةٍ تدورُ كلُّها على مِحوَرِ «الجزاء» إثابةً أو عقوبةً، والأمرُ جِدُّ مختلفٌ في شريعةِ الإسلامِ وتراثِه العظيمِ، حيث تستندُ فلسفةُ العمل إلى خلفيَّاتٍ هائلةٍ من القِيَمِ الأخلاقيَّة وأحكام الحلال والحرام، والثواب والعِقاب، وظِلالٍ وارفةٍ من الآداب والفضائل: فالتاجر الصَّدُوقُ الأمين -فيما يقول صلى الله عليه وسلم - مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ، والبائع والمشتري -فيما يقول أيضًا: «...إِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا». .. .. .. السيد الرئيس! الحضور الكريم! إنَّ هذه اللَّمَحَات الخُلُقيَّةَ التي ألمَمْتُ ببعضها في كلمتي هذه، هي ما يَجِبُ أنْ نَستَلهمه –نحن المصريِّين- من ليلةِ القدرِ، وهو الدَّرسُ الذي يَجِبُ أن نَتعلَّمُه من وَحْيِها وفي ظِلالِها، فهي ليلةُ العملِ وليلةُ التكليفِ، والليلةُ التي انتَقَلَ فيها القُرآنُ الكريمُ من السماءِ إلى الأرضِ ليُخرِجَ الناسَ من الظلماتِ إلى النُّور، وليست ليلةُ القدرِ كما يظنُّ كثيرون – مَوسِمًا لتلمُّسِ السَّعد والغنى، ولا هي لاختصارِ رحلةِ الحياة الشَّاقَّة في دعوةٍ يُستَمطَرُ بها الرزقُ، والمال والجاه والولد، إنَّها أبعد من ذلك بكثير، إنَّها الليلةُ التي فُرِضَ فيها العملُ والجهدُ والعَرَقُ، ورُبِطَتْ فيها النتائجُ بالمُقدِّمات، والمُسبَّبات بالأسباب، وهي الليلةُ التي تعلَّمنا من وحيها أنَّ السَّماء لا تُمطِر ذهبًا ولا فضَّة، وأنَّ ميزان التفاضُل بين الناس هو ميزانُ العمل النافعِ للبلاد والعباد.. «وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» {التوبة: 105}. .. .. .. أيُّهَا المِصريّون والمصريَّات في كُلِّ مكان! إنَّ واجب الشَّرع والوطن يُلقي على عواتقكم مُهِمَّة ثقيلة اختاركم الله لها، وهي أن تُقدِّموا أقصى ما تستطيعون، بل كل ما تستطيعون من الجُهد والعَرَق من أجل رفعة هذا الوطن الكريم، واستعادة مجده وعزه بأحرُفٍ من نور، وواجب المسؤولية يُحَتِّم علينا القول بأنَّ أيَّ مُقابل يحصل عليه العامل أو الموظف دون أن يُؤدِّي ما يوازيه مِنْ عملٍ جادٍ مُتقَن، فإنَّ هذا المُقابل تَشوبُه الحُرمة وأكل أموال الشعب بالباطل. إنَّ مصرنا في أمَسِّ الحاجة في هذا الوقت الصَّعب إلى الأيادي الخَشِنة وإلى العزمات الصَّادقة وإلى التَّضحية والجَد والعَرَق والبَذل والفِداء، وذلك حتى تنهضُ مِصرنا العزيزة من كبوتها، وتتَمَكَّن من تجاوز هذا الظَّرف الرَّاهِن الذي تَنُوءُ به.. وعلى جميع فئات الشَّعب أنْ تتَكاتَف وتَقِف صَفًّا واحِدًا لِتُجَابِه قُوَى الشَّرِّ والطُّغيان التي تَكيد لهذا البلد العريق، بل تَكيد لديننا الحنيف نفسه، ولتقاوم هذا الإرهاب اللَّعين الذي يَخطِفُ بِخسَّة وغَدر أرواح أبنائنا الأطهار وأصغرهم – في عيوننا وقُلوبنا – أعز من الدُّنيا وما فيها. سيادةَ الرئيس! إنَّ احتفالَنا بذِكرى ليلةِ القدر، هذه المَرَّة، تختلطُ فيه أحاسيسنا ومشاعرنا، وتضطربُ ما بين ألمٍ مُمِضٍّ وحُزنٍ عميقٍ على استِشهادِ جُنودِنا الأبطالِ ومُواطنينا الأحبابِ، الذين اختطفَتْهم يَدُ الغدرِ والذُّعرِ والأحقادِ المُرَّةِ على مصرَ والمصريِّين، وبينَ استرجاعٍ وصبرٍ على ما أَصابَنا، وتسليمِ لقضاءِ الله الذي لا رادَّ لقضائه في خَلقِه.. وبين استبشار بما أعَدَّه الله لهؤلاء الشُّهَداء من رضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم.. ومهما يَكُن من أمرٍ فتَحيَّةً وتقديرًا لشُهَدائِنا الأبرار الذين سقَطُوا فداءً لمصر ولشعبِها، ولأمنها واستقرارها؛ بل لبقائها عزيزة شامخة تغيظ أعداء الشعوب من الكائدين والمتربصين، تحية لهؤلاء الذين جادوا بأرواحهم ونُفُوسِهم من رجال القُوَّات المُسلَّحة والشُّرطة المدَنيَّة، وشَوامِخ رجال القضاء وشَبابهم، وكافَّة المواطنين المعصومين في دمائهم وأموالهم.. تغمَّدَهم اللهُ جميعًا بواسِعِ رحمتِه ورضوانه، وألهَمَ أهليهم وذَوِيهم وألهَمَنا معهم الصبرَ والثَّباتَ والتسليمَ. سيادة الرئيس! أختمُ كلمتي بالتوجُّه إلى الله - سبحانه وتعالى - أن يَحفَظَكم ويَرْعاكم، وأنْ يَحفَظَ رجالَك المُخلِصين مِن حولِك، وأن يُحَقِّقَ الله على أيديكم آمالَ مصرَ وأماني المصريِّين، إنَّه قريبٌ مجيبُ الدَّعوات.