فارقنا محمود سالم... صانع البهجة وصديق العمر، الذى أحبه ملايين الأطفال فى مصر والعالم العربى وعرفوه بمئات الكتب التى أدخل بها لونا جديدا من أدب الأطفال.. وكما قال الذين علقوا على رحيله من الجيل العمرى المتوسط مثل عمرو أديب وشريف عامر... عن الكتب البوليسية والألغاز... مثل المغامرين الخمسة والشياطين الثلاثة عشرة، وكيف كانت هذه الكتب التى تربى عليها أطفال هذا الجيل مدخلهم للقراءة، وبما كان محمود يثيره فيهم من متعة الخيال ووقع المفاجأة وترقب الحدث! اكتشف محمود نفسه فى هذا النوع من الكتابة التى فتحت له آفاقا جديدة فى الأدب... وهو الأديب بالطبيعة - هكذا عرفناه فى مدرسة دمياط الثانوية عندما التقينا وبدأت صداقتنا، وكان مولعا بالقراءة فى الآداب وأدب الرواية، خصوصا وهو الذى غاص فى أدب التراث وأشعار المتنبى وأبو العلا وغيرهم.. وهو القارئ الموسوعى كما عرفته طوال رحلة العمر، أى ما يقرب من السبعين عاما، ظل فيها كما هو دائما يشيع جوا من البهجة فى لقاءاته التى كانت تعقد فى «المندرة» التى كنا نلتقى فيها ويلتقى فيها أصدقاء آخرون من كل لون واتجاه... ومن خلفيات مهنية متباينة، الطبيب مثل د. محمد أبو الغار، ود.محمد شرف، والمحامى مثل الأستاذ رجاء عطية، والروائى مثل يوسف إدريس وعلى سالم... والشاعر مثل أحمد عبد المعطى حجازى، والكاتب الموسوعى مثل د.جلال أمين، والناقد الأدبى مثل رجاء النقاش وحازم هاشم، كنا جميعا نتلقى دعوات محمود بشغف ونتطلع إليها بترقب وسعادة... ومن أجمل هذه اللقاءات كانت لقاءاتنا مع الروائى الفذ الطيب صالح، عندما يأتى فى كل عام هاربا من برد لندن، ويأتى فى نفس الوقت عبد الرحيم الرفاعى هاربا من برد سويسرا... وطوال الشهرين أو الثلاثة التى يقيمان فيها كان بيت محمود هو الملتقى، ولا أنسى أبدا أحاديث الطيب صالح بصوته الخفيض وحسه الرقيق عن المتنبى ومقارنته بشكسبير ومع الطيب صالح كان ينضم أخى وصديقى السفير والأديب صلاح أحمد الذى زاملنى سفيرا للسودان فى واشنطن، وكان عبد المنعم سليم صديق العمر ضمن هذه المجموعة التى عملت فى هيئة الإذاعة البريطانية فى الخمسينيات، ومنهم من استقال احتجاجا على دور بريطانيا فى العدوان الثلاثى عام 1956، وفى السنوات الأخيرة جاءت هذه الشخصية السودانية الجميلة محمود عثمان صالح رجل الأعمال والمثقف السودانى دائم الارتجال والحضور إلى القاهرة، فيرتب محمود للقائنا معه، ويدور الحديث عن أهلنا فى السودان وبأسلوبه الرقيق يحدثنى عن إهمال مصر لدورها فى السودان، وكيف أن المدخل لقلوب أهل السودان هو المدخل الثقافى... «مندرة» محمود التى لو كنت قد كتبت مذكرات عن لقاءاتنا فيها لكان توثيقها فى عدة كتب وكان محمود هو الذى يشيع فى هذه اللقاءات زهوتها وحميميتها... وفى هذه اللقاءات كانت المائدة غامرة دائما بالأكلات الحرية التى تتوسطها «كفتة الجمبرى» التى لا يعرفها إلا أهل السواحل مثلنا.. فقط فى لقائى الأخير معه مساء يوم 18 فبراير الماضى عندما زرته فى العناية المركزة بمستشفى بدران بالدقى وجدته عابسا متبرما، لأنه كان مقيدا فى الفراش وأجهزة العناية المركزة مثبتة فى جسده الواهن، وكنت أوقن بأنه كان يود من صميم قلبه أن يهرب منها، فهو لو يكن راغبا أصلا فى إجراء عملية القلب التى كان من المفروض أن يجريها له خبير أجنبى كبير بعد أيام قلائل ولكنه أفلت منها.. وكأن الموت كان طريقه للهروب من هذه العملية. أفلت منها بمغادرة الدنيا وهمومها. وعندما جلست بجواره وهو فى السرير... وجدته وكأنه لا يريد لأحد أن يراه وهو فى هذا المزاج المتكدر الغريب على طبيعته... فلم أشأ أن أطيل الزيارة وسلمت عليه وقبلته فى جبينه وغادرت والدموع فى عينى.. وأخذت أتحسب هذه اللحظة.. فلقد كنا ثلاثتنا أصدقاء العمر محمود سالم وعبد المنعم سليم وأنا منذ التقينا فى أواخر الأربعينيات بمدرسة دمياط الثانوية.. حيث كنا نعيش أحلام المستقبل.. كان يجمعنا حب الأدب.. وكان محمود هو الذى يكتب أجمل موضوع إنشاء فى الفصل وعبد المنعم هو الأديب كاتب القصة القصيرة المستوحاة فى أغلبها من أحلام غرامياته... وكنت أنا أكثرهم ميلاً للسياسة التى لم تجتذب أيا منهما مثلما اجتذبتنى.. غادرنا عبد المنعم منذ سنوات وبقيت أنا ومحمود... وعندما رأيت محمود فى العناية المركزة أخذت أتحسب مما كنت أخشاه.. أن أكون أنا الذى سيبقى وحيدا بلا محمود وبلا عبد المنعم.. وبلا لقاءاته وضحكاته المجلجلة... وأخذت أستعيد أيام مجيئنا للقاهرة من دمياط فى أوائل الخمسينيات للدراسة بالجامعة، حيث عشنا فى هذه المدينة فى عصرها الزاهى، أى فى الخمسينيات التى وصفها لى صديق تركى بأنه جاء إليها لقضاء شهر العسل، لأنها كانت فى نظره أجمل مدينة فى العالم.. وهل هناك مدينة أخرى كان تغسل شوارعها فى كل مساء.. وتعج بهذا الكم من المسارح والأندية الثقافية والمقاهى.. أين ذهبت هذه القاهرة؟ بينما شخص أرمنى أقابله منذ سنوات فى باريس، حيث أستقر هناك يقول لى إن أجمل أفلام فى هذا الوقت كانت أفلام السينما المصرية... منذ مجيئنا إلى هذه القاهرة لم تنقطع لقاءاتنا محمود ومنعم وأنا... إلا عندما كنت أنقل للخارج وأعود فى الإجازات... وأول ما أفعله هو أن أتصل بالصديقين منعم ومحمود.. ونلتقى ونتحدث عن أحوال مصر.. وفى أول زيارة جئتها من نيويورك عام 58 قال لى محمود... سنعرفك بصديق جديد وهو يكتب الشعر الحر فاتفقنا على اللقاء فى شقتى بأول شارع الجيزة.. وجاء الشاعر الجديد والمجدد أحمد عبد المعطى حجازى... وأنشد قصيدته الشهيرة عن القاهرة والثانية عن ثورة الجزائر التى كان مطلعها عن جبال أوراس الجزائرية، والقصيدة الثالثة التى أبكتنى عن أمه المتوفاة.. وقضينا ليلة لا تنسى. أين ذهبت هذه الأيام وهذه الأحلام..؟! عندما جئنا للقاهرة سكن محمود وعبد المنعم فى الجيزة وسكنت أنا فى القاهرة الإسلامية جوار بيت القاضى مع الصديق كمال خشبة الذى كان بجامعة عين شمس (جامعة إبراهيم سابقا).. فاخترنا مكانا وسطا بينها وبين جامعة القاهرة حيث كنت أدرس.. وكان محمود ومنعم يأتيان لزيارتنا... وكان لدينا دائما مخزون من السردين المملح الذى يرسله أبى من عزبة البرج... والقُرص الفلاحى التى تأتى من شربين بلد كمال.. لم ينتظر محمود حتى نتخرج لكى يعمل بل ذهب للعمل مباشرة، وكانت البداية فى مجلة «التحرير» مع عبد العزيز صادق.. التى أصدرتها الثورة، وكانت مجلة «التحرير» هى بداية دار التحرير التى تصدر الآن جريدة «الجمهورية». ودارت الأيام وانتهت رحلتى مع الخارجية وعدت للقاهرة وأصبحنا ثلاثتنا نلتقى فى كل شهر على الأقل مرتين... وكان محمود هو الداعى دائما، وكانت زوجته أفكار هى ضابط الإيقاع فى حياته.. ولكنها لم تتدخل فى حياته الاجتماعية.. وكان من أهم ما تحرص عليه لقاؤه كل أسبوع فى شبرا مع مجموعة أصدقاء آخرين للعب الطاولة. وهو لقاء مقدس عنده... كلقائه معنا ومع أصدقائه الآخرين وفى هذه الفترة تعرف على السيدة نادية نشأت من عائلة «زيدان» صاحبة دار الهلال.. وهى التى طلبت منه أن يكتب للأطفال فانفتح أمامه عالم جديد... وكانت هى أيضا ضابطة إيقاع فى حياة أخرى من حيواته هى حياة العمل.. كان محمود عندما يبدأ فى كتابه لغز من مغامرات الشياطين.. التى اشتهر بها. كان يشعر وكأنه يحمل طفلاً على كتفه ينتظر منه أن يفرغ من كتابة اللغز.. فلا يترك اللغز إلا وقد أنهاه وسلمه فى موعده للنشر... وظل محمود على هذا النحو المنضبط وفى السنوات الأخيرة كان يكتب لجريدة «التحرير» فى عددها الأسبوعى يوم الجمعة، وكان محمود يعتز بصداقته بالأستاذ إبراهيم عيسى الذى قال لى عنه إن مما يعجبه فيه أنه يعمل دائما «وهو مبتهج». بينما كان محمود يمقت المرض إلا أنه لم يترك المرض لينال من إرادته، وكان لقاؤنا قبل الأخير فى بيت الصديق عبد الرحيم الرفاعى بالمهندسين.. وكان محمود غير قادر على الحراك إلا بمساعدة أحد أبنائه أو أحفاده الذين كانوا جميعا رهن إشارته... وأسماؤهم جميعا تبدأ بحرف ألف (أشرف وأكرم وأحمد وأدهم وأمينة). فى هذا اللقاء كان محمود كعادته... على سجيته، يحكى ويضحك، ويطلق القفشات ولم تكن تشعر أنه متألم... كان فى نفس الروح المرحة التى عرفه بها أصدقاؤه طوال هذا العمر المديد... صانع البهجة... وجامع الأصدقاء والأحبة.. وداع محمود يأتى بعد أن أودعنا مصر التى عرفناها ووسط مخاض لا نعرف بأى مصر سيأتى. وهو مخاض يتسم بالدم والغضب ومحاط بسحابات من الغموض والقلق... وليس من سؤال إلا سؤال واحد.. مصر هذه إلى أين؟