لماذا اتهم الأقباط المرشد بإحراق كنيستين؟ لما اشتدت الأزمة فى فلسطين مع تصاعد العنف الذى تمارسه الجماعات الصهيونية تجاه الفلسطينيين وإعلان بريطانيا نيتها إنهاء الانتداب على فلسطين والانسحاب منها يوم 15 مايو 1948م، فتحت الحكومة المصرية باب التطوع، وسمح لعدد من ضباط الجيش بالاستقالة كى يسافر المتطوعون إلى فلسطين، وكان أبرز هؤلاء البكباشى أحمد عبد العزيز. ونذهب إلى ما كتبه حسن البنا فى «قضيتنا»، هو نفسه يحدد أعداد المشاركين من الإخوان يقول: «وأقرت الجامعة العربية فكرة التطوع، فتقدم إليها الآلاف من شباب الإخوان يريدون الموت فى سبيل الله.. وظلت الحكومة والجامعة تترددان بين الإقدام والإحجام والحماسة تشتد والنفوس تغلى مما دعا المرشد العام إلى أن يبعث بمائة إلى معسكر قطنا بسوريا، وهى كل ما استطاع أن يقنع المسؤولين هناك بقبوله». إذن هناك مائة متطوع أرسلهم المرشد العام عبر سوريا، وتردد أنهم دخلوا فلسطين مع القوات السورية، ولا نعرف بالضبط ماذا كان مصيرهم هناك ولا العمليات التى قاموا بها، لكن نتائج المعركة تقول إن القوات التى شاركت من سوريا لم تكن موفقة فى مهامها بسبب ضعف التسلح وقلة التدريب، وتقول المصادر السورية إن متطوعى الإخوان ذابوا فى المجتمع السورى وقد تورط اثنان منهم فى انقلاب أديب الشيشكلى وحكم على أحدهما بالإعدام، لكن الحكم لم ينفذ. لما اشتدت الأزمة فى فلسطين مع تصاعد العنف الذى تمارسه الجماعات الصهيونية تجاه الفلسطينيين وإعلان بريطانيا نيتها إنهاء الانتداب على فلسطين والانسحاب منها يوم 15 مايو 1948م، فتحت الحكومة المصرية باب التطوع، وسمح لعدد من ضباط الجيش بالاستقالة كى يسافر المتطوعون إلى فلسطين، وكان أبرز هؤلاء البكباشى أحمد عبد العزيز. ونذهب إلى ما كتبه حسن البنا فى «قضيتنا»، هو نفسه يحدد أعداد المشاركين من الإخوان يقول: «وأقرت الجامعة العربية فكرة التطوع، فتقدم إليها الآلاف من شباب الإخوان يريدون الموت فى سبيل الله.. وظلت الحكومة والجامعة تترددان بين الإقدام والإحجام والحماسة تشتد والنفوس تغلى مما دعا المرشد العام إلى أن يبعث بمائة إلى معسكر قطنا بسوريا، وهى كل ما استطاع أن يقنع المسؤولين هناك بقبوله». البنا تجاهل التاريخ الإسلامى وما جرى فيه من مواقف إيجابية أو سلبية بخصوص الأقليات إذن هناك مائة متطوع أرسلهم المرشد العام عبر سوريا، وتردد أنهم دخلوا فلسطين مع القوات السورية، ولا نعرف بالضبط ماذا كان مصيرهم هناك ولا العمليات التى قاموا بها، لكن نتائج المعركة تقول إن القوات التى شاركت من سوريا لم تكن موفقة فى مهامها بسبب ضعف التسلح وقلة التدريب، وتقول المصادر السورية إن متطوعى الإخوان ذابوا فى المجتمع السورى وقد تورط اثنان منهم فى انقلاب أديب الشيشكلى وحكم على أحدهما بالإعدام، لكن الحكم لم ينفذ. البنا لم تجمعه علاقة بأى شخصية قبطية باستثناء مكرم عبيد الذى كان زعيمًا وطنيًّا وليس مسيحيًّا فقط ونعود إلى المرشد العام الذى يواصل الحديث بالقول «لكن ذلك لم يشف غلة الإخوان، فاستأذنوا فى إقامة معسكر خاص لهم بالقرب من العريش يمارسون فيه التدريب استعدادا لدخول فلسطين، وأذن لهم بذلك وأقاموا معسكرا كبيرا لعدد منهم يزيد على المائتين، يمدهم فيه المركز العام بكل ما يحتاجون من أدوات وتمرين وسلاح وعتاد بإذن الحكومة وعلمها حتى تم تدريبهم ودخلوا فلسطين فى مارس 1948م (...) واحتلوا هناك معسكر النصيرات جنوبى غزة..». وما لم يقله المرشد إن ضباط الجيش المصرى هم الذين كانوا يقومون بتدريب المتطوعين وإن الجامعة العربية هى التى كانت تتولى تكلفة التسليح والملابس والإعاشة بالكامل وليس المركز العام للجماعة.. ونعرف من مذكرات عبد اللطيف بغدادى «أنه هو وجمال عبدالناصر كانا من الضباط الذين تولوا تدريب المتطوعين من الإخوان وغيرهم، وأنهم فعلوا ذلك بتكليف من قيادة الجيش، والذى نعرفه من سير المعارك أن غزة لم تكن منطقة قتال حاسمة، وكان القتال شديدا فى وسط فلسطين وقلبها، ولا ينفى ذلك العمليات القتالية التى تمت فى غزة». ولم يكن هؤلاء كل المتطوعين من الإخوان، يقول حسن البنا «وتحركت الحكومة وهيئة وادى النيل العليا لإنقاذ فلسطين وأعدت معسكرها بالهايكستب لتدريب المتطوعين، تقدم إليه أكثر من ألف أخ وانتخب منهم أكثر من ستمائة على دفعات جهزتهم الحكومة ودخلوا مع القوات النظامية ووزعوا على مختلف الجهات»، أى أن الحكومة المصرية، حكومة النقراشى باشا، حين فتحت باب التطوع على مصراعيه وأقامت معسكرا للتدريب فى الهايكستب تقدم له من الإخوان «ألف» متطوع، والرقم يذكره المرشد، لأن عددا من كتاب الإخوان وصلوا إلى القول إن هناك عشرات الآلاف أرادوا التطوع، لكن لم يسمح لهم، ومن بين الألف اختير ستمائة فقط، وكانت الاختبارات تتم وفق اعتبارات اللياقة الطبية التى تتم عند التجنيد، بمعنى أنه لن يقبل متطوع مكفوف البصر -مثلا- أو لديه شلل أطفال، أو مريض بالسل أو ضعيف البنية.. وهذا العدد الذى قبل، تولت الحكومة تجهيزه.. أى الخضوع للتدريب ثم التسليح والملابس اللازمة، وهؤلاء دخلوا مع قوات الجيش المصرى.. وهذا الرقم 600 متطوع، هو محدود قياسا على عدد الإخوان آنذاك، والذى وصل به البعض إلى مليون أخ.. لكن دعونا نتابع مصير هؤلاء المتطوعين على الجبهة.. ونعرف من سير العمليات أنه عهد إليهم بمهمات القتال الخفيفة، فليسوا جيشا نظاميا وتسليحهم خفيف، وكانوا يقومون بأعمال فدائية، أقرب إلى حرب العصابات، وقدموا بطولات حقيقية واستشهد منهم عدد غير قليل. وتوجد وثيقة من الشهيد البطل أحمد عبد العزيز عبارة عن تقرير رفعه إلى أمين عام جامعة الدول العربية، يتحدث فيه عن الوضع فى المنطقة الجنوبية بفلسطين، وتحديدا معسكر النصيرات، وخاصة متطوعى الإخوان، وكان يقودهم الشيخ محمد فرغلى واليوزباشى محمود عبده، ويقول أحمد عبد العزيز إن «أسلحتهم والذخيرة محدودة» وكان هناك 119 مقاتلا من متطوعى جماعة أنصار الحق بقيادة الشيخ أبو العزايم وكانوا بمطار غزة «هؤلاء حالتهم سيئة جدا من ناحية الملبس والتسليح، وحتى الأسلحة لا يوجد لديهم أدوات لنظافتها»، ويقول أحمد عبد العزيز «إن الإخوان المسلمين لا يتلقون أوامرهم إلا من الشيخ فرغلى حسب ما يتراءى له، ولا سلطة لقائد المنطقة عليهم، وقد قاموا بعملية حربية ضد مستعمرة (كفارا أروم) أظهروا فيها بسالة واستشهد 12 وجرح 6، وللأسف كان تنفيذ الخطة من القيادة رديئا كما كان التسليح غير مناسب للعملية، ولذا خسروا المعركة، ورغم ذلك اتضح لى أن الإخوان المسلمين لديهم أفكار حربية وجيهة نوعا ما، يكفى تعسكرهم خارج غزة ويقظتهم فى الحراسة وتكتمهم فى إخفاء قوتهم الحقيقية». المتطوعون الذين ذهبوا عبر سوريا يختفى الحديث عنهم، حتى لدى الإخوان، لكن الحديث يجرى حوالى 800 متطوع كانوا بين غزة والقوات النظامية فهل كان هؤلاء المتطوعون -فعلا- قادرين على حسم المعركة وكان بإمكانهم إنقاذ فلسطين من الضياع؟! نترك الإجابة للدكتور ثروت عكاشة، ذلك أنه كان ضابطا بالمخابرات الحربية الملكية، وكان وقت حرب 1948م مسؤولا عن القطاع الجنوبى لفلسطين، أى غزة، ولم يمنعه ذلك من أن يتابع سير المعارك فى كل فلسطين، ويقارن بين أوضاع المقاتلين العرب عمومًا، من متطوعين وجيوش نظامية، والمقاتلين فى الجانب الصهيونى.. يقول د.عكاشة «سرعان ما تكونت طوائف من المتطوعين أخذت أماكنها المختلفة بفلسطين يقودها ضباط عراقيون وسوريون ومصريون، غير أنها لم تكن للأسف مسلحة التسليح الكافى، هذا غير أن أسلحتها كانت تختلف أنواعها مما يصعب معه إمدادها بالذخيرة اللازمة»، ويضيف د.عكاشة قائلا: «وفى جنوبى فلسطين كانت قوة المتطوعين الخفيفة وعلى رأسها البكباشى أحمد عبد العزيز أكثر قوات المتطوعين تنظيما وتسليحا على الرغم مما كان ينقصها هى الأخرى من التدريب والأسلحة الحديثة»، ويتحدث د.عكاشة عن افتقاد التخطيط العسكرى الدائم لدى الجانب العربى وغياب «المعلومات الواقعية» بما لدى العدو، وينتقل إلى الجانب الآخر ليقول «كان الجيش الصهيونى يربو على أربعين ألف مقاتل على درجة عالية من التدريب، فضلا عن عشرين ألفا دون ذلك المستوى الأول، ثم قوات أخرى مدربة للحراسة والمطالبة الأولية مما يطلق الحرية للقوات النظامية للقتال». ثم يضيف «وكان بين أيدى القوات النظامية وفرة من الأسلحة الثقيلة والآلية والمدرعات والعتاد الحربى، منها المستورد ومنها المصنوع محليا، الأمر الذى وفر لجيوشهم قوة النيران وخفة الحركة، هذا إلى ما كان لديهم أيضا من قوات المظلات ومعدات تدمير تفوقوا فى تنفيذه، وكانت تحت أيديهم كثرة من المطارات التى أنشؤوها واستولوا عليها بعد جلاء الإنجليز عنها». هل كان متطوعو الإخوان الستمائة بتدريبهم المحدود وتسليحهم الخفيف لديهم القدرة على هزيمة الجيش المعادى، بما لديه من أسلحة، وإمكانيات، فضلا عن سابق اشتراك معظم المقاتلين الصهاينة فى عمليات الحرب العالمية الثانية، بل هل كان كل المتطوعين العرب والجيوش النظامية العربية، وعددهم جميعا كان أقل من 12 ألف مقاتل قادرين على القيام بهذه المهمة؟! لا ينفى ذلك وجود بطولات فردية قام بها بعض المتطوعين، أو بعض رجال الجيوش النظامية، والواقع أن المقاتلين العرب مع ضعف التسليح وازدياد الحماس الوطنى والدينى لم يكن لديهم سوى البطولات الخارقة التى قام بها بعضهم، سواء كانوا من الإخوان أو من غيرهم، وجدنا بطولة فذة من اللواء محمد نجيب وقد أصيب فى إحدى العمليات، وبطولة خارقة من الضابط عبد الحكيم عامر الذى نال بسبب ذلك ترقية استثنائية بالجيش المصرى، فضلا عما قام به جمال عبد الناصر.. ولا يجب أن ننسى «الضبع الأسود» وبطولته فى العمليات الحربية، وأن تكون هناك بطولات خارقة لبعض متطوعى الإخوان المسلمين، شىء لا يمكن إنكاره، أما أن يقول عدد من كتاب الإخوان إنهم كانوا على وشك إبادة إسرائيل، لكن قرار الحل حال دون ذلك، فهو الكذب والتدليس أو السذاجة والتسطيح فى تناول الأمر، والغريب أن يستمر هذا الكذب ويتواصل التدليس بعد مرور أكثر من ستين عامًا على ضياع فلسطين وتكشف الكثير من الحقائق والوثائق. القمص ودولة عم حسن كان الشيخ حسن البنا حريصا على أن يبدو هو وجماعته على وفاق مع الأقليات الدينية فى مصر، وأنه وجماعته على وفاق مع الأقليات الدينية فى مصر، وأنه وجماعته لا يحملون تجاه أفراد الأقلية إلا الود والتقدير.. وتستشهد الجماعة على ذلك بالصلة الطيبة التى جمعت حسن البنا بالزعيم مكرم عبيد، صحيح أننا لا نجد مظاهر لتلك الصلة، لكن الثابت أن مكرم عبيد سار فى جنازة حسن البنا سنة 1949م، ويستغل محبو البنا وأنصاره حضور مكرم عبيد للتدليل على ما ربطه بشيخهم من مودة وصداقة، وقد يكون ذلك صحيحا وقد لا يكون، فالمشاركة عندنا فى الجنازات لا تخضع لمعايير الصداقة والود أو انعدام الود، ذلك أن الموت عند المصريين له معنى خاص، وحضور جنازة الميت أو المشاركة فى العزاء واجب أخلاقى، ويصبح المرء أكثر حرصا عليه، حتى إذا لم تربطه صلة حميمة أو خاصة بالميت، بل إذا لم تكن النفوس صافية والقلوب عامرة بالحب فى الحياة، يصبح واجبًا المشاركة فى العزاء اعتبارًا لقيمة «الموت» وعبرته عند المصريين جميعا.. وبغض النظر عن هذا كله فصلات مكرم عبيد وحسن البنا لا تنسحب على جميع الأقباط ولا على معظمهم. موقف مكرم عبيد يحسب عليه وحده، وهو موقف مرتبط بظروف صاحبه، ذلك أنه منذ انشقاقه على الوفد وموقفه العدائى من النحاس «باشا» بعد سنة 1942م، كان حريصًا على أن لا يبدو زعيما قبطيا ولا معبرا عن الطائفة القبطية، بل زعيم مصرى، لذا حرص على الابتعاد عن الأزمات والخلافات القبطية، خاصة تلك التى كانت بين الكنيسة والمجلس المحلى، ولم يقترب من الجمعيات أو الهيئات القبطية، وفى الوقت نفسه حرص على أن يبدى تقديرا واحتراما بالغا للرموز الإسلامية، ففى سنة 1943م وفى مناسبة الذكرى الألفية لتأسيس الأزهر يبعث ببرقية إلى شيخ الأزهر جاء فيها «وإذا كان لى -كمصرى له عقيدته الوطنية- أن أفخر بالأزهر الشريف معهدا مصريا، فإن لى كرجل له عقيدته الروحية أن أشيد به معهدا دينيا».. ويقول أيضا فى البرقية نفسها «لقد أدى الأزهر رسالته للدين والدنيا معا»، وفى إطار حرصه هذا كان يقوم ببعض اللفتات الودودة تجاه جماعة الإخوان، وربما لا يخلو الأمر من رغبته فى مكايدة الوفد والنحاس «باشا»، الذى لم يكن يحب جماعة الإخوان، لذا نراه فى الكتاب الأسود يندد بموقف حكومة الوفد سنة 1942م من الجماعة فى أثناء فرض الأحكام العرفية، يقول «أغلقت الحكومة فرع جمعية الإخوان المسلمين فى قنا بأمر عسكرى، فقلت لعل النحاس باشا قصر أمره على قنا لأنها قنا، لكن علمت أن الحاكم العسكرى قد أصدر أمره -والأمر لله- بإغلاق عدد كبير من فروع الجمعية وهى تربو على الخمسين فى شتى بلاد المملكة المصرية». من هنا فإن موقف وعلاقة مكرم عبيد بالجماعة، يظل أمرا شديد الخصوصية يرتبط بحال وتكوين مكرم عبيد، لكنه لا يعبر عن موقف عام للأقباط، كما أنه لا يعكس ولا يكشف موقف الجماعة كذلك من الأقباط، خاصة فى زمن حسن البنا، فتحت أيدينا من الأوراق والشهادات ما يؤكد وقوع القلق والفزع بين أعداد كبيرة من أقباط مصر فى جراء بعض دروس وكلمات حسن البنا، على النحو الذى ستكشفه الصفحات القادمة، وقد ازداد هذا الفزع بعد وقوع أعمال إرهابية تجاه بعض منشآت اليهود وتجاه اليهود أنفسهم فى مصر، وكانت أصابع الاتهام تشير إلى الجماعة، كما جرى إحراق كنيسة فى الزقازيق وأخرى فى السويس وكانت أصابع الاتهام تتجه نحو الجماعة، واتهم بعض رموز الأقباط حسن البنا نفسه. فى الكتابات النظرية وخطب البنا لا نجده يقف بالتفصيل عند هذه القضية، إنما يشير إليها إشارات عابرة «سريعة» وهناك رسالته «نحو النور» تتعرض فى فقرة منها إلى أوضاع الأقليات، بعنوان «الإسلام يحمى الأقليات ويصون حقوق الأجانب» ونعرف من «مقدمة الرسالة» أنه كتبها فى رجب سنة 1366 هجرية وبعث بها إلى كل من الملك فاروق وإلى رئيس الحكومة، وقتها مصطفى النحاس باشا، وإلى عدد من ملوك وأمراء وحكام بلدان العالم الإسلامى، فضلا عن عدد من كبار الشخصيات فى هذه البلدان. يقول الشيخ حسن «يظن الناس أن التمسك بالإسلام وجعله أساسا لنظام الحياة ينافى وجود أقليات غير مسلمة فى الأمة المسلمة، وينافى الوحدة بين عناصر الأمة وهى دعامة قوية من دعائم النهوض فى هذا العصر، ولكن الحق غير ذلك تمامًا، فإن الإسلام الذى وضعه الحكيم الخبير الذى يعلم ماضى الأمم وحاضرها ومستقبلها قد اختار لتلك العقبة وذللها من قبل، فلم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الواضح الذى لا يحتمل لبسا ولا غموضا فى حماية الأقليات، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين» (الممتحنة: 8)، فهذا نص لم يشتمل على الحماية فقط، بل أوصى بالبر والإحسان إليهم. وعلى هذا النحو يستشهد بالآيات القرآنية الكريمة، مثل قوله تعالى: «يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا» (الحجرات: 13)، وهذه الآية تكشف عنده أن «الإسلام سعى إلى تحقيق الوحدة الإنسانية العامة، بل قدسها»، ويقول أيضا «ثم قدس الوحدة الدينية العامة كذلك، فقضى على التعصب وفرض على أبنائه الإيمان بالرسالات السماوية جميعا فى قوله تعالى: «قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون، فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم فى شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم، صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة... » (البقرة: 136- 138) ويستشهد حسن البنا بسورة الحجرات مرة ثانية «إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون» (الحجرات: 10)، والآية عنده تعكس أن الإسلام «قدس الوحدة الدينية الخاصة من غير حلف ولا عدوان» وينتهى من ذلك كله إلى القول «هذا الإسلام الذى بنى على المزاج المعتدل والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعه سببا فى تمزيق وحدة متصلة، بل بالعكس إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدنى فقط». وينتقل حسن البنا فى رسالته إلى الجانب الآخر أو من قال عنهم إن الإسلام قد حدد «تحديدا وقتيا من يحق لنا أن نناوئهم ونقاطعهم ولا نتصل بهم»، ويستشهد بالآية «إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظلمون» (الممتحنة: 9) ويعقب بالقول «وليس فى الدنيا منصف واحد يُكره أمة من الأمم على أن ترضى بهذا الصنف دخيلا فيها وفسادا كبيرا بين أبنائها ونقضا لنظام شؤونها»، ثم يقول «ذلك موقف الإسلام من الأقليات غير المسلمة واضح لا غموض فيه ولا ظلم معه، وموقفه من الأجانب موقف سليم ووفق ما استقاموا أو أخلصوا، فإذا فسدت ضمائرهم وكثرت جرائمهم فقد حدد القرآن موقفنا منهم بقوله «يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون، هأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم» (آل عمران: 118- 119). وسوف نلاحظ أن حسن البنا هنا لم يحاول أن يتوقف عند تفسير الآيات القرآنية، التى استشهد بها، ولا ذهب إلى الأحاديث النبوية، فضلا عن تجاهله التاريخ الإسلامى وما جرى فيه من مواقف إيجابية أو سلبية بخصوص الأقليات، فضلا عن أنه لم يشأ أن يتوقف عند تاريخ مصر تحديدا، فى هذا الجانب، هو اكتفى بالمرور عابرا عند بعض الآيات القرآنية،وهذه النصوص فيها ما يكفى لضمان حقوق غير المسلم، بل حتى حقوق من يقرر الكفر، ولكن كيف تفاعلت هذه النصوص وتفاعل معها الفقهاء والمفسرون والخلفاء والحكام؟ وكيف انعكس ذلك كله على المجتمعات الإسلامية عموما والمجتمعات العربية تحديدا؟ أما المجتمع المصرى خاصة فتجربته تستحق التوقف عندها، لكنه لم يفعل. حين كتب حسن البنا رسالته «نحو النور» كانت مصر تحكم بدستور سنة 1923، الذى ساوى بين المواطنين بغض النظر عن الديانة التى يعتنقها كل منهم، صحيح أن الدستور أقر بأن دين الدولة هو الإسلام، ولكنه أقر كذلك بحرية الاعتقاد وعدم التمييز بين المواطنين بسبب الدين، ولذا وجدنا وزراء كانوا من المسيحيين واليهود المصريين، بل فى أثناء ثورة 1919م وقبل صدور دستور 1923م كان هناك رئيس وزراء قبطى وهو يوسف وهبة باشا، ويجب القول إن أوضاع الأقليات الدينية فى مصر كانت تشهد تطورا منذ القرن التاسع عشر، فقد ألغى الوالى محمد سعيد باشا «الجزية» عن «أهل الذمة»، وذلك حين قرر أن يتم تجنيد أبناء المصريين جميعا، وكانت مصر أول بلد من البلاد العثمانية يتم فيه إلغاء الجزية. إذ سبقت «الخط الهمايونى» الذى أصدره السلطان العثمانى بعام، وكان تجنيد المصريين وإلغاء الجزية قد فتح الباب على مصراعيه ليعامل أبناء مصر جميعا كمواطنين بلا تمييز، وضح ذلك أكثر فى عهد الخديو إسماعيل، حيث تسابق الجميع من مسلمين ومسيحيين ويهود ليلعبوا دورا فى النهضة التى أراد إسماعيل أن يقوم بها فى مصر، ومن ثم فإن ما جرى فى ثورة 1919م من مظاهر الوحدة الوطنية، لم ينشأ من فراغ، وشعار «الدين لله والوطن للجميع» لم تخترعه الثورة اختراعا، بل كان تعبيرا عن حالة قائمة بالفعل، ومتحققة داخل المجتمع. طرح الشيخ حسن البنا بعد ذلك، أفكارا تناقض هذا الذى تحقق فى مصر منذ القرن التاسع عشر، ففى رسالة المؤتمر الخامس الذى عقد سنة 1937م، يقول عن الخلافة وعن الوطن «فالإسلام لا يعترف بالحدود الجغرافية ولا يعتبر الفوارق الجنسية الحدودية، ويعتبر المسلمين جميعا أمة واحدة، ويعتبر الوطن الإسلامى وطنا واحدا مهما تباعدت أقطاره وتناءت حدوده، وكذلك الإخوان المسلمون يقدسون هذه الوحدة ويؤمنون بهذه الجامعة، ويعملون لجمع كلمة المسلمين وإعزاز أخوة الإسلام، وينادون بأن وطنهم هو كل شبر أرض فيه مسلم يقول: لا إله إلا الله محمد رسول»، وينتقل إلى الحديث عن الخلافة بالقول «إن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير فى أمرها والاهتمام بشأنها، والخلافة مناط كثير من الأحكام فى دين الله، ولهذا قدم الصحابة رضوان الله عليهم النظر فى شأنها على النظر فى تجهيز النبى ودفنه»، ثم يقول «والأحاديث التى وردت فى وجوب نصب الإمام وبيان أحكام الإمامة وتفصيل ما يتعلق بها لا تدع مجالا للشك فى أن من واجب المسلمين أن يهتموا بالتفكير فى أمر خلافتهم منذ حورت عن مناهجها ثم ألغيت بتاتا إلى الآن..»، ونصل إلى بيت القصيد حيث يقول «والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها فى رأس مناهجهم، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التى لا بد منها»، ويحدد هو تلك الخطوات من تعاون تام بين الشعوب الإسلامية ثم تكوين الأحلاف والمعاهدات وعقد المؤتمرات بين هذه البلاد، وعندها يتم تكوين ما يسميه «عصبة الأمم الإسلامية»، وأخيرا «إذا تم ذلك للمسلمين نتج عنه الاجتماع على الإمام الذى هو واسطة العقد، ومجتمع الشمل ومهوى الأفئدة وظل الله على الأرض»، نلاحظ هنا أن البنا يذكر أن الخليفة هو ظل الله على الأرض، وهذا يعنى قيام الدولة الدينية، التى لا مجال فيها لحريات عامة أو خاصة، من أى نوع، ليس هناك سوى ظل الله على الأرض. وفى دولة الخلافة لا مكان للحزبية ولا للأحزاب «الإخوان المسلمون يعتقدون أن الأحزاب السياسية المصرية جميعها قد وجدت فى ظروف خاصة ولدواع أكثرها شخصى لا مصلحى»، ويضيف: «ويعتقد الإخوان كذلك أن هذه الحزبية قد أفسدت على الناس كل مرافق حياتهم، وعطلت مصالحهم، وأتلفت أخلاقهم، ومزقت روابطهم، وكان لها فى حياتهم العامة والخاصة أسوأ الأثر»، ثم يقول «الحجة القائلة بأن النظام البرلمانى لا يتصور إلا بوجوب الأحزاب، حجة واهية وكثير من البلاد الدستورية البرلمانية تسير على نظام الحزب الواحد، وذلك فى الإمكان»، ويفاجئنا بأن الإخوان اتخذوا خطوات عملية فى هذا الاتجاه.. «طلبوا من جلالة الملك حل هذه الأحزاب القائمة حتى تندمج جميعا فى هيئة شبيهة واحدة تعمل لصالح الأمة على قواعد الإسلام»، ثم يقول «سيواصل الإخوان جهودهم فى هذا السبيل، وسيصلون إلى ما يريدون بتوفيق الله وفضل يقظة الأمة، وبتوالى فشل رجال الأحزاب فى ميادينها وسيتحقق قطعا ناموس الله». هذا كله سنة 1937م، حين كان الملك فاروق ما زال فى بداية حكمه، وكانت تداعب خياله -كما داعب خيال والده من قبل- فكرة أن يكون خليفة وإمام المسلمين، وكان بعض المحيطين والمقربين منه يثيرون فيه ذلك، ومن ثم فقد كانت أفكار البنا، فى هذا الجانب تسير وفق هوى الملك الشاب، ولم يكن ذلك الملك مستريحا للأحزاب، تحديدا حزب الوفد.. حزب الأغلبية، وكان الهجوم على الأحزاب والمطالبين بإلغائها أو حلها يجد هوى لدى الملك، فسيريحه ذلك من عناء الوفد وزعيمه العنيد مصطفى النحاس، لكن هذا كان يثير القلق لدى بعض المراقبين والمتابعين من الأقليات.. خاصة أن حسن البنا لم يتوقف عند هذا الحد، فنراه فى الرسالة نفسها يقول «إن الوطن الإسلامى كل لا يتجزأ وإن العدوان على جزء من أجزائه عدوان عليه كله، هذه واحدة، والثانية أن الإسلام فرض على المسلمين أن يكونوا أئمة فى ديارهم، سادة فى أوطانهم، بل ليس ذلك فحسب، بل عليهم أن يحملوا غيرهم على الدخول فى دعوتهم والاهتداء بأنوار الإسلام التى اهتدوا بها من قبل».