أكتب إليك هذا الخطاب المفتوح، وللقراء والثوار معا، على الرغم من أننى لم ألتق بك من قبل، ولست عضوا فى حزبك كصديقى العزيز الكاتب الكبير بهاء طاهر، الذى طلبت منه قبل أسبوعين إبلاغك جوهر هذه الرسالة. أكتب إليك لسببين: أولهما حرصى على أن تأخذ قضية محمد الجندى حقها من الاهتمام والعدل معا، وأن لا يلحق ببقية الثوار الذين لم نقتص لهم بعد. فقد بكيت، رغم عوادى الزمن الردىء التى أصابت القلب بالجمود، حينما سمعت أمه تتحدث عن قضيته، وكان لا يزال بين الحياة والموت. وثانيهما أنك أصغر زعماء جبهة الإنقاذ سنا، وبالتالى أقربهم إلى الجدارة بالقيادة الحقيقية المحتملة لثورة شباب مصر النبيلة، ومع ذلك لا أرى أنك تعى بحق ما يمنحه لك هذا الوضع من امتيازات، وما يفرضه عليك من مسؤوليات. وأولها عندى الآن مسؤوليتك عما جرى لمحمد الجندى، أحد شباب الثورة المخلصين، الذين وضعوا ثقتهم فيك وانضموا إلى حزبك، وعملوا على تحقيق أهداف الثورة من خلاله، فدفع لذلك ثمنا فادحا. ووضعت تضحيته على عاتقك فى نفس الوقت، كرئيس لهذا الحزب، مسؤولية تاريخية. فحتى يكون رئيس أى حزب جديرا بزعامته، عليه أن يتحمل مسؤوليته عن تضحيات أعضائه وحماية حقوقهم، والقصاص لهم، وأن لا يسمح لمرتكبى الجرائم التى راح ضحيتها محمد الجندى بالإفلات من العقاب. وقد وضعت تضحية محمد الجندى على كاهلك مسؤولية أن تجعل أى معارضة باسم الثورة لحكم الإخوان «المظلمين» الكذّابين، جديرة بنبل الثورة المصرية، وبأهم إنجازاتها، ألا وهى احتلالها للموقع الأخلاقى الأعلى بنبل أهدافها وسلمية مسارها، الذى بنت مشروعيتها وعظمتها على تمسكها به، لذلك آمل أن تجعل القصاص لمحمد الجندى سبيلك إلى نهج جديد من معارضة حكم التخلف والتبعية والظلام الذى اختطف الثورة، ويعمل على التخلص بأسلوب فاشى من شباب الثوار. نهج لا يكتفى بمعارضة جرائم النظام الذى نادى الثوار بإسقاطه، الذى لا يزال يحكم مصر على أرض الواقع تحت قناع مغاير، وإنما أن يوسع ساحة المعركة لتشمل الرأى العام العالمى، وتسهم فى تعبئته من أجل الثورة. لأن حكم الإخوان، كحكم مبارك من قبلهم لا يعبأ برأى الشعب بقدر ما يهتم برأى الغرب والسيد الأمريكى. ولا بد أنك تعرف، لانخراطك فى ما يدور على الأرض أكثر منى، حيث أتابع المشهد عن بعد، وبعد أكثر من ثلاثين عاما من الحياة فى الغرب، أهمية البعد الدولى لأى حراك سياسى فى العالم كله، وفى مصرنا المنكوبة خاصة. فقد أصبح العالم قرية كونية، وأصبح للرأى العام العالمى وزن ودور فى أكثر الصراعات محلية، كما أن دور العالم الخارجى، وفى مقدمته الإدارة الأمريكية فى التخلى عن نظام مبارك، وتأييد الثورة بغية السيطرة عليها أو إجهاضها، كان له أثر بارز فى نجاح الثورة المصرية فى الإطاحة بمبارك بأقل ما يمكن من خسائر. كما لا بد وأنك تعرف أيضا دور هذه الإدارة فى جلب حكومة الإخوان، بعد مشاورات مستفيضة مع المجلس العسكرى ومعهم، وتعهدات التزموا فيها بتنفيذ المخطط الصهيوأمريكى فى المنطقة، بنفس الكفاءة التى نفذها به نظام مبارك المخلوع، وبإبقاء مصر فى حظيرة التبعية لهذا المخطط الجهنمى الذى سبق ونشرت عدة مقالات فى «التحرير» أوضح دور حكومة الإخوان فيه. كما لا بد وأنك تعرف أن ما يجعل حكومة الإخوان تتعامى عن الغضب الشعبى الناجم عن إحباط الشعب والثوار، لعدم تحقيق أى من أهداف الثورة، بل وتؤججه بعنف الدولة والممارسات القمعية الممجوجة، هو استنامتها لدعة التأييد الأمريكى القوى الذى يرى فى تمكينها من مفاصل الدولة استمرارا لهيمنته على السياسات المصرية، وتأكيدا لتبعية مصر للمخطط الذى يحقق المصالح الصهيوأمريكية فى المنطقة. والواقع أن تعامى الإخوان عن مختلف أعمال المعارضة والغضب الشعبى منذ الإعلان الدستورى المشؤوم فى نوفمبر، وإرسالها الوفود إلى واشنطن من عصام الحداد إلى عصام العريان، لتوضيح أسباب تصرفاتها لها بدلا من خروج الرئيس لتوضيح أى من ذلك للشعب أو المعارضة، يعنى وعيهم بأن مشروعيتهم تستند إلى هذا التأييد الخارجى أكثر من استنادها إلى الشعب، الذى انتخب محمد مرسى ومكن جماعته من ورائه من السلطة، الذى تعمل الجماعة بشكل منظم منذ وصولها إلى السلطة على تهميشه والزراية بمتطلباته. فقد أدرك الإخوان بسرعة، ما اعتقده نظام مبارك لسنوات، أن واشنطن هى أهم مصدر للسلطة واستقرار الحكم فى المنطقة، وليس الشعب الذى يزعمون أنهم يحكمون باسمه، ويمثلون ثورته. كما أدركوا أن تأييد أمريكا لهم، حيث يعملون لرضاها كل حساب وينفذون مصالحها بكل دقة، أهم من تأييد الشعب المصرى الذى يمكن قمعه والعصف به، ما دامت واشنطن مستعدة لإغماض العين عن انتهاكاتهم لحقوق الشعب والثوار، وما داموا قادرين على إخراس أصوات المعارضة أو تجاهلها أو تحجيمها. وهذا يفسر التجاهل الطويل منذ الإعلان الدستورى لاحتجاجات المعارضة، واستمرارهم فى تنفيذ مخططهم فى فبركة شرعية وخطاب سياسى مكذوب يبرر الدعم الأمريكى لهم، بتمرير الدستور، وتزوير الاستفتاء، ووضع قانون انتخابات يكفل لهم الحصول على أغلبية بشرعية الصناديق المزورة. فقد أدرك الإخوان إلى جانب أهمية تحقيق السياسات الصهيوأمريكية فى المنطقة من أجل كسب الرضا الأمريكى، ضرورة أن يركز الخطاب الذى يتداوله الغرب عنهم وعن الثورة المصرية، على تمثيلهم لشرعية الثورة، وشرعية الصندوق. وأنهم يحكمون باسم الإرادة الشعبية والثورية معا، ويلقون لذلك معارضة كأى نظام حرّ له معارضوه. ذلك لأن الغرب يميل إلى تصديق وتعزيز روايات من يحققون مصالحه، لأن من مصلحته ترديد هذه الروايات ودعمها. ولا يهتم بالتحقق مما إذا كانت تلك الروايات حقيقية أم مكذوبة، لأن الغرب يدرك أهمية الخطاب ودوره فى إضفاء الشرعية على نظام أو نزعها عنه، بل ويستخدمه بمهارة فى حروبه المختلفة لتحقيق مصالحه التى تتبلور فى الخطاب قبل أن تتحقق على الأرض. وهناك قصة مشهورة عن قول كولن باول، وزير الخارجية الأمريكى الأسبق، لجورج بوش إبان التجهيز لمعركته لاجتياح العراق. إننى أستطيع عسكريا أن أحتل لك العراق فى أيام. ولكنك إن لم تكسب هذه الحرب فى الخطاب السياسى، وتقنع بها العالم، فلن تكسبها على الأرض أبدا، مهما حققت فيها من انتصارات حربية. بعد هذا التقديم الطويل أعود إلى القضية التى كتبت لك من أجلها، قضية هذا الشاب النبيل محمد الجندى الذى آمن بالثورة، وانضم إلى حزبك، واصطادته آلة العنف التى تسعى لإجهاض الثورة وقهر الثوار، لأن عليك وعلى حزبك إذا كان يريد أن يصبح حزبا معارضا يتلقى شرعيته من الشعب ومن الثورة، ويعبر عنها وينصت له العالم فى الخارج، أن يحيل قضية محمد الجندى إلى قضية وطنية ودولية عامة. تعرى خطاب الإخوان وأكاذيب آلة القمع البوليسية من كل شرعية، بل وتجعل أمريكا تشعر بالخزى لوقوفها مع نظام يغتال الثوار، فمحمد الجندى شاب من الخلفية الطبقية والثقافية والاجتماعية الصحيحة التى تمكن الغرب من التماهى معه، شاب فى شرخ الشباب (فى الثامنة والعشرين من عمره) متعلم منفتح على العالم، جاب بلدانه، يتحدث أكثر من لغة، ويتعامل مع أحدث وسائل العصر التقنية، ولذلك فإنه يستطيع أن يكون الوجه الإنسانى الذى يمثل الثوار ويمنحهم اسما وشخصية وهوية. كما أن موته بالطريقة الوحشية التى مات بها، وليس برصاصة طائشة يتفرق بها دمه بين الجند، لا بد أن يعرفها العالم كله، كى يعرف الوجه الفاشى القبيح لهذا النظام الذى تؤيده الولاياتالمتحدةالأمريكية، كما أن عملية التغطية المسعورة على قتله، بعد تعذيب استغرق أكثر من أسبوع، نمت فيه شواربه وذقنه وحلق له الجلادون ذقنه، ونسوا أنه يحلق أيضا شاربه، بطريقة يكاد المريب يقول خذونى، تفضح تلك المسرحية البائسة التى شارك فيها مكى وزير العدل، أو بالأحرى الظلم والزيف الإخوانى، وإعلانه أنه ضحية حادث سيارة، حتى قبل أن يصدر الطب الشرعى تقريره، أو كى يزور الطب الشرعى تقريره. لا بد أن تعمل ويعمل حزبك على انتداب أطباء شرعيين غربيين من المنظمات المعروفة فى هذا المجال، وبأسرع ما يمكن وقبل إخفاء الأدلة، مثل «أمنستى إنترناشونال»، و«هيومن رايتس ووتش»، ومفوضية الأممالمتحدة لحقوق الإنسان، ولا بد أن تجمع الأدلة والشهادات، وتطرح على العالم كله حقيقة الممارسات الفاشية التى يمارسها الإخوان. لأن قضية محمد الجندى قادرة على استقطاب اهتمام الرأى العام الذى ألهبت الثورة المصرية خياله، وعلى تحويل تأييد أمريكا تلك الممارسات الفاشية التى راح ضحيتها الثوار إلى عبء أخلاقى عليها. وإذا استطاع النظام التحلل من مسؤوليته عن قتل جابر جيكا ومحمد كريستى وعمرو سعد بأن دمهم قد تفرق بين الجند، فلا بد أن يجمع حزبك من الأدلة ما يطرح قضية محمد الجندى على الرأى العام الدولى، وليس على النائب العام الإخوانى، لا بد أن تصبح قضية محمد الجندى هى القضية التى توقف سيل هذا الإرهاب الممنهج، وأن يصبح هذا الوجه الشاب المفعم بالحياة، يبتسم لها أمام «الكولوسيم Colosseum» الصرح الرومانى الكبير، هو وجه ضحاياهم الذين يسعون لطمسه، حتى تعرف أمريكا أنها تؤيد من تلوثت أيديهم بالدماء، وحتى يصبح تأييدهم لها عبئا أخلاقيا وسياسيا عليها. ولك فى مصطفى كامل الذى أحال حادث دنشواى إلى قضية أخلاقية دولية أدت إلى سحب بريطانيا للورد كرومر، مهندس استعمارها الماكر، من مصر قدوة حسنة. فدون فتح ما يدور فى مصر على الرأى العام العالمى، ودعوته للمشاركة فيه سيستمر اصطياد النشطاء واغتيالهم، وسيتواصل اختطاف الناشطين، واعتقال الأطفال وتعذيبهم، بدعوى التآمر على قلب نظام الحكم، وخطف البنات والتحرش بهن. ودون أن يعرف العالم أن نظام الإخوان يعمل بطريقة ممنهجة لوأد الديمقراطية فى مصر، وأنه أخرج الجماعات الإرهابية بعفو رئاسى، ولم يحاسب الميليشيات على تعذيب الثوار وقتلهم فى أحداث الاتحادية الأولى، أو على حصار المحكمة الدستورية والعصف بالقضاء، أو حصار مدينة الإنتاج الإعلامى وإرهاب الصحافة، لن يلعب الرأى العام العالمى دوره فى مؤازرة الثورة والثوار، ودون أن يعرف العالم أن المعارضة التى تتحدث باسم الثورة هى وحدها المسلحة بالموقف الأخلاقى الأعلى، سيستمر دعمه لحكم الإخوان ضد الشعب، وابتلاعه لأكاذيبهم عن الشرعية وعن الصناديق المزورة، لذلك عليك أن تستخدم قضية محمد الجندى فى كشف ما يدور فى مصر للرأى العام الدولى، ليس فقط لأن دفاعك عن قضية أحد أعضاء حزبك والقصاص له، يدفع الناس إلى احترام الحزب، لأنه يحترم من ينضم إليه ويدافع عن حقهم ويقتص لهم، ولكن أيضا لأنه يعزز دورك فى المعارضة بفاعلية، ويكشف للعالم كله مدى الانحطاط الأخلاقى لموقف الإخوان من الحرية والمعارضة، ويعرى حقيقة الممارسات الفاشية الممنهجة التى يرتكبونها ضد الثورة والثوار.