أنهيت مقال الأسبوع الماضى بسؤالَين: هل قدر على مصر أن تعود بهذه السرعة إلى الوضع الذى ثارت عليه؟ وهل سنرى فى العام التالى النهاية الكاملة للثورة، أم أننا سنشهد بداية الثورة الثانية؟ وقد أخذت الأيام القليلة الماضية تقدِّم لنا بوادر الجواب على هذَين السؤالَين. حيث انتفض القلب، قلب مصر الدامى والمحبط على مدار عامين من التخبّط والتآمر على الثورة والثوار، فى ميدان التحرير وميادين التحرير المختلفة بالمدن. وانفجر خط الدفاع الأول عن جسد مصر فى مدن القناة الباسلة والإسكندرية. ومع الانتفاضات والانفجارات، وبسبب العنف الذى يقمع به الأمن المتظاهرين، وبوتائر تتسارع وتتصاعد فى قسوتها، بسبب المحاولات الجارية لأخونة وزارة الداخلية، يبرز سؤال جوهرى جديد: لماذا يختلف مشهد اليوم بعنفه وإحباطاته، عن المشاهد الحضارية الباهرة التى تجلّت فى أيام الثورة الثمانية عشر؟ ولا بد هنا من التفريق بين ثورة 25 يناير وسياقاتها، وكيف أن الطاقات الشبابية المتحضرة التى فجّرتها ورعت خطواتها وصاغت شعاراتها العريضة «كرامة، حرية، عدالة اجتماعية»، استطاعت أن تجمع كل شرائح الشعب الواعية حولها، وتنمّى زخمها واستجاباتها لمتغيرات الأحداث إبان أيام الثورة الثمانية عشر، وبين كل ما يدور الآن بعد عامين من مؤامرات الثورة المضادة عليها. فقد كانت الثورة التى فجّرها الشباب، وعارضها الإخوان المسلمون فى أيامها الأولى، بنت سنوات طويلة من الغضب الكظيم وانسداد الأفق فى وجه الشباب. وكان تراكم الكثير من ممارسات نظام مبارك المخلوع قد وسع الهوة بين طبقة سفيهة من الأثرياء، وملايين يرزحون تحت خط الفقر. وجعل حياة جيلين متعاقبين من شباب مصر، ومن المتعلمين منهم خاصة، لا تطاق ولا تسمح لهم بالحلم بأى مستقبل. وقد انعكس فى مطالبة الثورة بإسقاط النظام، من أجل نظام أكثر عدلًا يتيح لهم العيش الكريم، والحرية الحقيقية لا الزائفة، والتمتع بالكرامة فى وطنهم. فلا أمل لأى إنسان فى الشعور بالكرامة الحقيقية ما لم تتحقق له تلك الكرامة فى وطنه. لأن المهاجر من وطن تابع ومهان، يظل هوان وطنه يلاحقه حتى فى مهجره. وكلنا نعرف كيف أن كثيرًا من هؤلاء الشبان الذين انسد الأفق أمامهم، كانوا يغامرون بالسفر فى قوارب الموت لعبور البحر الأبيض المتوسط، هربًا من هذا الهوان. وقد كان نظام مبارك المراوغ، وحرصه على توفير الكثير من منافذ التنفيس عن الغضب المتراكم الناجم عن انسداد الأفق، ونشره لأوهام النمو والرخاء، وتطويره لآليات جهنمية فى القمع والاحتواء، وتعامله الأمنى مع التظاهرات التى بدأت مع حركة «كفاية» عام 2004، وتنامت مع حركة «6 أبريل»، ولم يكن للإخوان ولا لحلفائهم من المتأسلفين أى دور فى تلك المسيرة التى امتدت لسبعة أعوام. كان لهذا كله دور فى طبيعة ثورة 25 يناير حينما اندلعت شرارتها الأولى، وفى تنامى زخمها، وتعزيز سلمية مساراتها، والتفاف الطبقة الوسطى وبقية الطبقات الشعبية العريضة حولها. كما أن بناء تلك الثورة على تاريخ طويل من المعارضة المدنية والخطاب العقلى الرافض للفساد والهوان والتبعية والذى بلورته كتابات مجموعة من كتّاب مصر الشرفاء الذين رفضوا دخول الحظيرة الشهيرة التى رعاها فاروق حسنى وبطانته من المثقفين التابعين، ساهم بدوره فى سلميتها وتحضرها وما انطوت عليه مساراتها من حدوس خلّاقة. فقد استطاعت الثورة بحق أن تعبر عن بنية المشاعر الوطنية والثقافية التى بنتها مسيرة النهضة المصرية منذ رفاعة الطهطاوى وحتى أحدث كتّاب مصر الشرفاء الذين رفضوا دخول حظيرة النظام الفاسد الذى كانت شرعيته تتآكل كل يوم. وأن تضمن فى شعاراتها البسيطة توقًا مضمرًا إلى استقلال الوطن، وإنقاذه من هوان التعبية للمخططات الصهيوأمريكية فى المنطقة. ولهذا كله كان للثورة المصرية هذا التأثير الكبير، بل الطاغى على العالم، والذى تناولت بعض تجلياته فى مقال الأسبوع الماضى. لأن أهم ما فعلته هى إحياء الأمل فى نفوس الشباب، فى أنهم بجسارة ثورتهم، وبما قدموه فيها من تضحيات قد فتحوا طاقة لهم على المستقبل. وأنهم قادرون عبر هذا الأمل على إنقاذ مصر من وهاد الفساد والتردى والهوان. ولا شىء يدفع طاقات الشباب إلى الفعل والخلق والإبداع قدر انفساح الأمل أمامهم وانفتاحه على المستقبل. أما ما نشاهده الآن من تخبط وعنف، فهو نتيجة مسيرة أخرى جرت على مدى العامين الماضيين، وأدّت إلى تحطيم هذا الأمل وسد الطريق أمام المستقبل الذى رآه الشباب، وشاهده العالم معهم. مسيرة مغايرة لتلك التى كانت الثورة ذروة التعبير عنها. لأن نبل الثورة، وعفوية الثوار وبراءتهم، اصطدمت بعد أن سلّمت الأمر إلى المجلس العسكرى بمكيافيلية الثورة المضادة ونذالاتها، وكل صنوف مؤامراتها، التى حيكت، ولا تزال تُحاك فى دهاليز السياسات الصهيوأمريكية. وقد بدأ الأمر بتصور غبى من المجلس العسكرى، ومن ورائه رعاة الثورة المضادة فى البيت الأبيض، بأنه من الممكن إعادة عملاق الثورة الذى انطلق من قمقمه إلى القمقم مرة أخرى. وسد طاقة الأمل التى بزغ نورها فارتعدت له فرائص أعدائها، واستبشر به خيرًا شعب مصر بأكمله. وإجهاض الثورة التى نضجت على نيران عقلية هادئة لعقدَين من الزمان. ثم تشويه الثوار بعدما تركوا الميادين عقب سقوط رأس النظام، وسلّموا إدارة شؤون البلاد ومستقبلها لغيرهم. ولما وجد الثوار أن المجلس العسكرى لا ينفذ أيًّا من أهداف الثورة، ولا يسعى إلى القصاص لشهدائها، ولا يقوم بتغيير النظام الذى نادت الثورة بإسقاطه، بل يحافظ على أسسه ومرتكزاته، مكتفيًا بنفى رأسه إلى شرم الشيخ، اندلعت المليونيات فأجبرت المجلس العسكرى على وضع مبارك وراء القضبان ومحاكمته، وإن شهد جنرالاته ببراءته من التهم الموجهة إليه أثناء المحاكمة. وبدأ عمل المجلس العسكرى بتوجيهات صهيوأمريكية واضحة، وبالتنسيق مع البديل الذى اختارته تلك التوجهات وواصلت التنسيق معه، وهو الإخوان المسلمون، على محورَين: أولهما تشويه الثورة والثوار الحقيقيين، وبلورة مسار يمكّنهم من إحكام قبضتهم على السلطة، والزعم بأنهم يمثلون الثورة، بينما يحافظون فى حقيقة الأمر على كل السياسات التى ثار الشعب عليها. وثانيهما سد طاقة الأمل التى انفتحت أمام الشباب، والشعب والوطن كله فى الاستقلال الحقيقى والعدل الاجتماعى. ومن يراجع كتابات نوح فيلدمان Noah Feldman الذى نبّهت المستشارة نهى الزينى إلى أهميتها فى حديث أخير معها، يدرك حقيقة مخطط هذه الثورة المضادة، وكيف يتم تنفيذه فى مصر، وكيف يعتمد على الإخوان. ونوح فيلدمان أستاذ شاب بمدرسة الحقوق فى جامعة هارفارد، وناشط يهودى صهيونى فاعل فى دوائر المحافظين الجدد. فقد رشّحوه للعمل مع بول بريمير بعد غزو العراق، ويُقال إنه لعب دورًا بارزًا فى كتابة الدستور العراقى الذى قنّن للطائفية وتفتيت العراق على أسس إسلامية. لأنه خبير فى الشؤون الإسلامية التى حصل على الدكتوراه فيها من جامعة أكسفورد عام 1994، كما أن له أكثر من كتاب فى الموضوع مثل «ما بعد الجهاد: أميركا والصراع من أجل ديمقراطية إسلامية»، و«ما ندين به للعراق: الحرب وأخلاقيات بناء الأمة»، و«سقوط وصعود الدولة الإسلامية» الذى يرسم خطة إحياء دولة إسلامية تكرس تبعية المنطقة برمتها للسياسات الصهيوأمريكية المراد تحقيقها، كى تستمر سيطرة أميركا على منطقة الشرق الأوسط، وتأمين هيمنة دولة الاستيطان الصهيونى بفلسطين عليها. أقول إن مَن يراجع كتابات فيلدمان، ويتأمل ما دار على مدى العامين الماضيين والمهارة الجهنمية التى أدارت بها الثورة المضادة، فى «أقبح صورها»، حسب تعبير عزيز على محمد مرسى، مسيرة المرحلة الانتقالية، أو بالأحرى الانتقامية كما يصفها الشباب، يدرك أن البديل الذى يزعم الآن أنه يحكم باسم الثورة، التى انضم إليها متأخرًا وتخلّى عنها مبكرًا، ليس إلا التجلى الكامل لتحقق الثورة المضادة. فقد أبدى هذا البديل الإخوانى مبكرًا استعداده للقيام بالدور الذى كان يلعبه مبارك المخلوع، وأن يكون الذخر الاستراتيجى الجديد للعدو الصهيونى وللسياسات الصهيوأمريكية فى المنطقة، بعد أن يسربله بغطاء دينى، والدين منه براء. وقد سبق أن بينت أن سياسات الإخوان فى الفترة القصيرة التى قفزوا فيها على الحكم لا تختلف من حيث موقفها من العدو الصهيونى، أو من سياسات التبعية الاقتصادية وتكبيل مصر بالديون ونهب أصولها، أو تزييف إرادة الشعب فى استفتاء مغشوش على دستور باطل، عن سياسات مبارك المخلوع. كما أن موقفها من تجاهل قضية العدل الاجتماعى، وتقاعسها عن بناء دولة مصرية قوية ذات إرادة مستقلة، قادرة على النهوض بالشعب المصرى وتحقيق آماله، لا يختلف فى شىء عن تلك التى كان يمارسها النظام الذى نادت الثورة بسقوطه. وهذا هو السر فى دعم أمريكا الواضح للإخوان الآن، وفى ما صدر عنها من تصريحات مؤيدة لهم تعد تدخلًا سافرًا فى شؤون مصر الداخلية. هذه المسيرة التى وصلت بنا إلى تبديد كامل للأمل الذى ولدته ثورة 25 يناير 2011 فى نفوس الشعب المصرى عامة، وشبابه الباسل خاصة، هى التى جعلت اليوم مغايرًا للبارحة. فنحن أمام شباب يدركون أن أيًّا من أهداف ثورتهم لم يتحقق. وأن النظام الذى يحكم فى مصر منذ الثورة، سواء أكان المجلس العسكرى أو الإخوان، يعمل لأمريكا وللمصالح الصهيوأمريكية ألف حساب، ولا يعمل لشعبه الذى يعيش على خيراته، ويكتسب شرعيته بادعاء أنه يحكم باسمه، أى حساب. وطوال العامين الماضيين اتفق كل من المجلس العسكرى والإخوان، على شيطنة الثورة واستنزاف جهود الثوار، والتنكيل بهم. ولم يخلق أى منهما أية قنوات فعالة لمعرفة رأى الناس عامة، والثوار خاصة، فى ما يقومون به باسمهم وباسم الثورة. بصورة لم تترك للثوار أى وسيلة فعالة للتعبير إلا التظاهر، وكلما تباطأت الاستجابة للتظاهر، كلما تصاعدت حدة عنفه. خصوصًا أن ميل الإخوان بطبيعة تنظيمهم الفاشية لاستخدام العنف أكثر حدة من كل ممارسات المجلس العسكرى، وما أحداث قصر الاتحادية ومحمد محمود الثانية وحصار المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامى ببعيدة عن الأذهان. وها هى أحداث العيد الثانى للثورة توجع قلب مصر وتشعل النيران فى مدن خط دفاعها الأول على القناة. فهل سيعود الإخوان لرشدهم، ويستمعون لما يريده شعبهم؟ أم سيكتفون هم وحلفاؤهم من السلفيين بإطالة لحاهم، كى تصبح أطول من لحية أبى لهب «تبت يداه»، وأغزر من لحية الوليد بن المغيرة «العتل الزنيم»، ويستمرئون التمرغ فى هوان السياسات الصهيوأمريكية ومخطط فيلدمان، وسد طاقة الأمل التى انفتحت أمام شباب مصر وفقرائها؟ هل سيدركون أن سد طاقة الأمل التى فتحتها الثورة أمام مصر، وأمام شبابها الذى يمثل نصف عدد سكانها، لن يجر عليهم وعلى مصر إلا الوبال؟ أرجو أن يدركوا ذلك قبل فوات الأوان من أجل مصر، لأن الثورة الثانية لن تبقى ولن تذر، ولأن من أراد مصر بسوء قصمه الله!