مرسى رأى فى أحكام «الدستورية» انتقاصًا من سلطة الجماعة.. فتصدَّى لها بالقوة تناولنا فى مقالنا السابق الحديث عن الإعلانات الدستورية المنعدمة التى أصدرها السيد الرئيس، وتغول بها على سيادة القانون، وخلصنا إلى أن هذه الإعلانات كان مقصودا بها -كما نرى- تمرير الدستور باعتباره خيارا بديلا يقى الشعب (المجتمع) من سموم هذه الإعلانات التى قسمت الشعب وفرقته وأنهكته فى معارك جانبية ما زالت آثارها شاخصة للعيان، سواء بالنسبة إلى السلطة القضائية أو فى تدشين نصوص دستورية معيبة ومنحرفة فى الوثيقة الدستورية، وكانت من أهم الإشكاليات التى تناولتها الإعلانات الدستورية هى تحصين مجلس الشورى وغل يد المحكمة الدستورية العليا عن النظر فى الدعوى المنظورة أمامها بعدم دستورية نظام انتخاب مجلس الشورى وما يترتب على ذلك من انعدام وجوده. وهو هدف سعى إليه السيد الرئيس منذ يوم ميلاد سلطته، بل إنه قد حاول أن يعيد أخاه الأكبر وهو مجلس الشعب بقرار جمهورى غريب وعجيب قفز به على النصوص الدستورية والأحكام القضائية فى خفة واستخفاف يحسد عليهما. لقد كان منطق الرئيس فى ذلك كله الدفاع عن سلطة شخصية استأثرت بها جماعته ورأى فى أحكام المحكمة الدستورية العليا، سواء فى ما يخص مجلس الشعب أو مجلس الشورى، انتقاصا من هذه القيمة، ومن ثم فلا عيب أبدا من استخدام آليات دستورية فى غير موضعها لإعادة ما ضاع أو الحفاظ على ما بقى. وحتى حينما لم تسعف هذه الآليات فى تحقيق أهدافها فيمكن اللجوء إلى القوة، وهو ما حدث فعلا فى حصار مرير للمحكمة الدستورية العليا لم يحدث من قبل لمحكمة سواء فى مصر أو العالم. على أن الذى يعنينا هنا فى هذا المقال هو الإجابة عن التساؤل الذى طرحناه فى هذا المكان فى حديثنا الثلاثاء الماضى. هل ما زال مجلس الشورى محصنا من رقابة المحكمة الدستورية العليا؟ وهل الدعوى المتعلقة به قد انقضت ولم يعد لها أثر؟ سوف نتجاوز فى إجابتنا عن هذا السؤال عن كل ما يقال ويتعلق ببطلان أو انعدام الإعلانات الدستورية أو بطلان الدستور الجديد وعدم مشروعيته، وسوف ننتقل بالحديث إلى مربع آخر، وهذا المربع ينطلق من اعتبار هذه الإعلانات صحيحة على سبيل الافتراض الجدلى. من المناسب أن نشير إلى أن السيد الرئيس عندما أصدر الإعلان الدستورى فى 21 نوفمبر 2012 قد فاجأ الجميع حتى بعض مساعديه ومستشاريه الذين استقالوا اعتراضا على الإعلان موضوعا وشكلا وتوقيتا. وقد استهدف هذا الإعلان فى ما استهدفه تحصين مجلس الشورى استباقا للدعوى المنظورة أمام المحكمة الدستورية العليا، التى كان من المؤكد أن تقضى حين تستوفى الدعوى إجراءاتها بعدم دستورية النصوص التى جرت عليها انتخابات مجلس الشعب، لتمثل العوار الدستورى فى انتخابات المجلسين، ولذلك نص هذا الإعلان فى المادة الخامسة منه على أنه «لا يجوز لأية جهة قضائية حل مجلس الشورى أو الجمعية التأسيسية لوضع مشروع الدستور». والحق أن صياغة النص جاءت ركيكة إلى حد كبير، ولا تؤدى الهدف الذى استهدفه من إصداره أو من أشار به عليه. ذلك أن المحكمة الدستورية العليا لا تحل مجلس الشعب أو مجلس الشورى بصورة مباشرة، فهى حين تبسط رقابتها على النصوص التى تم انتخاب هذا أو ذاك بناء عليها، إنما يترتب على الحكم الصادر من المحكمة بعدم دستورية نصوص انتخاب البرلمان بطلان المجلس منذ يوم تشكيله. ومن ثم فإن الأمر لا يتعلق بحل المجلس، لأنه ببساطة من الناحية القانونية فإن الحل لا يرد إلا على مجلس شكل تشكيلا صحيحا من الناحية الدستورية والقانونية، فإذا كان حكم المحكمة الدستورية العليا يقرر عدم دستورية نصوص القانون التى تشكل على أساسها البرلمان، فإن هذا البرلمان -وفقا لما هو ثابت من أثر للحكم بعدم الدستورية- يكون باطلا منذ يوم تشكيله، وهو الأمر المستقر فى أحكام المحكمة الدستورية العليا وأحكام مجلس الدولة وأحكام محكمة النقض. ولا يقدح فى ذلك ما أثاره البعض من أن هذا الأثر ببطلان التشكيل تقرره محكمة الموضوع. فذاك أمر -حتى مع التسليم به- فإنه لا يغير من الأمر شيئا، حيث إن محكمة الموضوع، وهى المحكمة الإدارية العليا، قد أكدت ذات الآثار لأحكام المحكمة الدستورية العليا، وهو ما يعنى أن الآراء التى كانت تنتقد الحكم الصادر من المحكمة الدستورية العليا فى 14/1/2012 وتأثيراته على مجلس الشعب وتتحدث عن إمكانية مخالفة محكمة الموضوع لما يرتبه هذا الحكم من آثار غير صحيحة وغير ممكنة، وأنها كانت فى حقيقة الأمر -تماحيك سياسية لا غير- وعلى ذلك فإن ظاهر هذا النص لا يتعلق فى الحقيقة بتحصين مجلس الشورى، وإنما يمنع أية جهة قضائية من حله، والحل كما سبق وبينا مختلف تماما عما تمارسه المحكمة الدستورية العليا من رقابة على تشكيل هذا المجلس. ولكن دعنا نفترض جدلا -والفرض كما يقول القانونيون دائما غير الحقيقة- إن هذا النص يحصن مجلس الشورى من الرقابة القضائية عن طريق المحكمة الدستورية العليا. والسؤال الآن الذى يبحث عن إجابة: هل ما زال مجلس الشورى محصنا؟ الأمر الذى يستعصى به عن رقابة المحكمة الدستورية العليا رغم العوار الدستورى الذى لحق تشكيله، الذى سبق وأن أبطل بسببه مجلس الشعب. إن السؤال المطروح ليس سؤالا هامشيا، والقضية المطروحة ليست قضية قليلة الأهمية، فى الحقيقة ولكنها تتعلق بسيادة القانون، واستقلال القضاء، وصحة تشكيل المؤسسات الدستورية التى يجب أن تعلو على مصلحة الأحزاب والجماعات. إن القيمة الحقيقية للتقدم هو احترام القانون، وإذا كانت السلطة الحاكمة تخترق سيادة القانون ليلا ونهارا وتدوس عليه بمنطق القوة والغصب. هذه السلطة لا يمكن لها أن تلوم الناس حينما تتجرأ على القانون وتخالف أحكامه. نحن -بضمير قانونى ومهنى واع وبلا أى نوازع سياسية- نرى أن الإجابة عن السؤال السابق طرحه هو أن مجلس الشورى لم يعد محصنا، وأن المحكمة الدستورية العليا تملك حسب اختصاصها الفصل فى الدعاوى المنظورة أمامها والمتعلقة بعدم دستورية النصوص القانونية، التى جرت انتخابات هذا المجلس بناء عليها، وذلك للأسباب الآتية: أولا: نص المادة الثانية من الإعلان الدستورى الذى صدر بتاريخ 21/11/2012 التى تنص على أنه: «الإعلانات الدستورية والقوانين والقرارات الصادرة عن رئيس الجمهورية منذ توليه السلطة فى 30 يوليو 2012 وحتى نفاذ الدستور، وانتخاب مجلس شعب جديد تكون نهائية ونافذة بذاتها غير قابلة للطعن عليها بأى طريق، وأمام أية جهة، كما لا يجوز التعرض بقراراته بوقف التنفيذ أو الإلغاء وتنقضى جميع الدعاوى المتعلقة بها والمنظورة أمام أية جهة قضائية». وهذا نص واضح فى دلالاته التى تقضى بأن آثار هذا الإعلان المشؤوم تنقضى تماما بنفاذ الدستورى الجديد. بمعنى أنه كقاعدة عامة فإن هذا الإعلان لا ينتج أى آثار إلا فى المدة بين إصداره ونفاذ الدستور الجديد، وهو قد صدر بتاريخ 21/11/2012 ونفذ الدستور فى 26/12/2012، ولذلك فإن هذه هى المساحة الزمنية التى يمكن القول إن هذا الإعلان الدستورى قد أنتج آثاره فى تحصين مجلس الشورى خلالها. وذلك على الفرض بصحة إصداره، وهو ما لم نسلم به ابتداء، ولكن كل ذلك على الفرض الجدلى مع التسليم بصحة هذا الإعلان، فإنه لا يؤدى إلى تحصين مجلس الشورى إلا فى الفترة بين إصدار هذا الإعلان ونفاذ الدستور. كما أن انقضاء الدعاوى -المشار إليها فى نص المادة الثانية- إنما يتعلق بالدعاوى المتعلقة بالإعلانات الدستورية والقوانين والقرارات السابقة الصادرة عن رئيس الجمهورية منذ توليه السلطة فى 30 يونيو 2012، وهو الأمر المستفاد صراحة من نص المادة الثانية المشار إليها. ثانيا: عندما ألغى إعلان 21/11 بالإعلان الصادر فى 8/12/2012 فإن المادة الأولى منه نصت على أن: «يلغى الإعلان الدستورى الصادر بتاريخ 1 نوفمبر 2012 اعتبارا من اليوم ويبقى صحيحا ما ترتب على ذلك من آثار». ولفهم هذا النص لا بد من تأكيد ضرورة التفرقة بين الآثار التى تمت وانتهت فى ظل هذا الإعلان وبين آثار يجب أن تستمر فترة طويلة من الزمن، فمثلا إقالة النائب العام السابق وتعيين نائب عام جديد ذلك أثر قد حدث وانتهى بمجرد صدور نص الإعلان بالنسبة إلى النائب العام السابق وكذلك بالنسبة إلى تعيين النائب العام الحالى، أما فكرة التحصين فإنها مسألة مستمرة ما استمر المجلس قائما، بمعنى أن التحصين قد يرد على فترة زمنية معينة يكون خلالها المجلس محصنا، فإذا ما انتهى هذا الوقت سقط هذا التحصين ويعود الأمر إلى أصله ويعود إلى قاعدته العامة. ومن ثم فإن تحصين مجلس الشورى يكون محدودا وفقا لنص المادة الثانية والخامسة من إعلان 21 نوفمبر، والمادة الأولى من إعلان 8 ديسمبر، إنما يكون مقصورا على الفترة بعد صدور الإعلان الأول حتى نفاذ الدستور. كما أن المادة الأولى من إعلان 8 ديسمبر نصت بوضوح على أن يلغى الإعلان الدستورى الصادر بتاريخ 21 نوفمبر.. «ويبقى صحيحا ما ترتب على ذلك الإعلان من آثار.....» أى أن هذا النص استبقى ما ترتب على الإعلان قبل إلغائه لا بعد إلغائه، لأن الاستبقاء على الآثار بعد الإلغاء يكون غير ممكن وغير مقبول من الناحية العقلية أو المنطقية أو القانونية. ثالثا: الدستور الجديد الذى نُفذ بعد الاستفتاء لم يحصن مجلس الشورى، بل أكد زوال هذا التحصين تماما. حيث نص فى المادة (236) منه وهو آخر نص فى نصوصه على أن: «تلغى جميع الإعلانات الدستورية الصادرة من المجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الجمهورية منذ الحادى عشر من فبراير سنة 2011 وحتى تاريخ العمل بالدستور، ويبقى نافذا ما ترتب عليها من آثار فى الفترة السابقة». وهذا النص قاطع فى دلالته على أن الإعلانات الدستورية التى صدرت سواء فى عهد المجلس العسكرى أو فى عهد الرئيس مرسى قد انتهى العمل بها بمجرد نفاذ الدستور، وأن ما ترتب عليها من آثار يبقى نافذا فى الفترة السابقة على نفاذ الدستور فقط. ومن ثم فإن هذه الإعلانات الدستورية ليس لها أى آثار يمكن أن تطبق أو تستبقى بعد نفاذ الدستور. والقول بغير ذلك يصطدم فى الحقيقة بالمنطق القانونى السليم ذلك أنه لا يتصور فى الحقيقة أن يمتد أثر قاعدة قانونية استثنائية صدرت بمنطق الضرورة حتى لو سلمنا جدلا بأن الرئيس المنتخب يملك سلطة إصدارها، وهو الأمر المخالف للحقيقة، إلا أنه على الفرض الجدلى بالتسليم بذلك، فإن هذه الإعلانات لم يعد لها أثر، ذلك أن الضرورة التى صدرت فى ظلها هذه الإعلانات يجب أن تقدر بقدرها وفقا لما تنص عليه القاعدة الشرعية والقانونية. ولما كانت مسألة التحصين مسألة مستمرة باستمرار المجلس فى وجوده، فإن هذه الإعلانات استهدفت تحصين مجلس الشورى فى الفترة ما قبل نفاذ الدستور، فإذا ما نفذ الدستور فإن الحكم الدستورى الذى أتى به الدستور هو الذى يحكم هذا المجلس فى استمراره. وإذا كان نص المادة (230) من الدستور قد نص على أنه: «يتولى مجلس الشورى القائم بتشكيله الحالى سلطة التشريع كاملة حتى انعقاد مجلس النواب الجديد، وتنتقل إليه السلطة التشريعية كاملة لحين انتخاب مجلس الشورى الجديد، وذلك خلال سنة من تاريخ انعقاد مجلس النواب». فإن ذلك معناه أن المجلس القائم بتشكيله يوم نفاذ هذا الدستور يتولى سلطة التشريع كاملة فى حالة غياب ما أسماه الدستور بمجلس النواب. وهذا النص لم يتحدث عن تحصين مجلس الشورى أو استمرار تحصينه. وهو الأمر الذى يؤدى حتما وبالضرورة إلى الرجوع إلى الأصل وهو خضوع تشكيل المجلس والقانون الذى انتخب على أساسه إلى الأصل، وهو الرقابة على دستورية القوانين التى تمارسها المحكمة الدستورية العليا. إن بسط المحكمة الدستورية العليا لرقابتها على تشكيل مجلس الشورى ومن قبله مجلس الشعب، أمر يتصل بسيادة القانون ومبدأ شرعية السلطة والحكام الذين يضيقون حتما بالرقابة القضائية عموما والرقابة الدستورية خصوصا هم فى الحقيقة يطمحون إلى الاستبداد. والحكم بالهوى لا بالقانون حتى ولو تذرعوا فى تبرير ذلك بتلفيق الأكاذيب. إن مدخل أى سلطة للممارسة الديمقراطية إنما هو احترام أحكام القضاء. والحق أنه منذ أن أتى الرئيس المنتخب وهو يهدم بخطى ثابتة ومنظمة استقلال القضاء، ويتدخل فى شؤون السلطة القضائية بصورة فجة، وغير مسبوقة على الإطلاق، سواء فى مصر أو فى أى دولة ليست فقط ديمقراطية وإنما تدعى الديمقراطية. إن النزوع إلى الاستبداد والإطلاق فى ممارسة السلطة أمر يؤدى إلى الهلاك، وغلق الأبواب لن يورث هذه السلطة غير البوار، لا سيما أن هذا الاستبداد يمارس فى بيئة ما زالت ثورية ومتمردة ترنو دائما إلى الخلود إلى نظام ديمقراطى صحيح يتحقق فيه أحلام شعب ثار لا إلى نظام مستبد تخطف فيه السلطة. استقيموا يرحمكم الله. فإن التاريخ لن يرحم. والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.