عدت للوطن أمس من سفرة قصيرة، وطبعًا لم أجد خبرًا ولا أى شىء جديد سوى أنباء الهم والغم نفسها وحلقات مسلسل القتل العبثى والإبادة اليومية للفقراء، بينما خيبة الست «جماعة الشر» القوية (الخيبة وليست الست) تتجلَّى وتتصاعد وتنتقل من ذروة إلى أخرى ومن عربدة إلى كارثة ومن كارثة إلى أخرى بغير كلل ولا ملل ولا حدود أو سقف. المهم.. كنت مكدودًا متعبًا وبدا لى أن ملاك الكتابة سوف يعاندنى، وقبل أن أتهوَّر وأتصل بصديقى رئيس التحرير وأعتذر، اكتشفت أن ذكرى انتفاضة الشعب الخالدة يومى 18 و19 يناير (بعض الزملاء يقدمون تاريخ بدايتها يومًا من دون سبب) حلَّت أمس فقررت أن أهرب إلى الاحتفال بها وأغرف من مخزن ذكريات مشاركتى فيها متظاهرًا ثم سجينًا.. فقد بدأت من هذه الانتفاضة (وأنا بعد غرّ صغير) رحلة سياحة طويلة فى زنازين وتخشيبات وسجون مصر الزاهرة، غير أن تلك «الحبسة» الأولى، بقيت أكثر «الحبسات» ثراء وأشدها تميزًا وتأثيرًا فى وجدان العبد لله.. على الأقل لأنها لم تخل من مشاهد وحكايات طريفة جدًّا، بل إن بعضها رغم «ميلودراميته» الفاقعة، أو ربما بسبب هذه الميلودرامية، يفطس من الضحك. سأكتفى برواية واحدة فقط من هذه الحكايات، وقد اخترتها، ليس لأنها الأطرف والأظرف وإنما لأن «الحبسة» كلها بدأت بها. .. كان انضمامى إلى موكب المعتقلين (الطويل جدًّا) بتهمة التحريض والمشاركة فى الانتفاضة، تأخَّر إلى عصر يوم 12 فبراير 1977، أى بعد إعادة افتتاح الجامعة التى كان صدر قرار بإغلاقها مع تفجر الأحداث. فى صباح هذا اليوم حاولت حفنة من الطلبة الناشطين (فى جامعة القاهرة) الذين أفلتوا من حملات الاعتقال تحدّى مناخ الخوف والإرهاب الذى كان مخيمًا على البلد آنذاك بعدما استعاد نظام المرحوم الأستاذ أنور السادات زمام الأمور، وفى أول ظهور علنى له عقب خمود الانتفاضة أصر الرجل على دمغها بأنها مجرد «انتفاضة حرامية»، وطلب أمام عدسات التلفزة من الأستاذ فوزى عبد الحافظ (سكرتيره) أن يناوله «قلم الإمضاء»، فلما ناوله فوزى القلم وضع توقيعه علنًا وعلى الهواء مباشرة فوق ورقة قال للناس إنها تحمل نص قانون يجعل «السجن المؤبد» شخصيًّا هو عقوبة مَن يشارك فى مظاهرة أو يحبّذها أو يشجعها ولو بابتسامة ساحرة يبثّها للمتظاهرين وهوه واقف بيتفرج عليهم من البلكونة!! نجحت محاولتنا واستطعنا بجهد ليس قليلًا جمع بضع مئات من الطلاب فى تظاهرة طافت كليات الجامعة حتى استقرت فى الباحة الرئيسية أمام قاعة جمال عبد الناصر، وقد تضاعف عددها مرات عدة، وأغرانا العدد الكبير فى تحويل المظاهرة إلى مؤتمر ضخم انتهى بإعلان تأسيس ما سميناه «اللجنة العليا للتضامن مع الطلبة المعتقلين»، وقد تبوَّأ العبد لله منصب منسّقها العام. لكن ما انفرط عقد المؤتمر حتى بدا واضحًا أن أعضاء «لجنة التضامن» تلك ربما سيحتاجون قريبًا جدًّا إلى مَن يتضامن معهم.. إذ ظهرت للتو حشود من المخبرين وضباط أمن الدولة أخذت تنتشر وتعشش وتتلطّع فى كل زاوية، ورأينا عيونهم تترصدنا وتلاحقنا كلما تحركنا إلى مكان، وتآكلت الدقائق وتراكمت الساعات الطوال بينما «اللجنة» مشغولة فقط بمحاولات فاشلة للهرب و«الزوغان» من عيون العسس، ثم تحوّل الفشل إلى يأس عندما خلت تقريبًا طرقات الجامعة وساحاتها وصفصفت علينا وعلى جحافل المخبرين والضباط الذين لم يعودوا مهتمين بستر حضورهم المفضوح، ولم يكن ينقصهم إلا أن يصارحونا بوقاحة أنهم ينتظرون اللحظة التى سنخرج فيها من أى بوابة لكى يعتقلونا. تعبنا وسلّمنا أمرنا لله، وقررت أنا واثنان من الأصدقاء أن ننهى هذا الموقف العبثى ونغادر الجامعة معًا واللى يحصل يحصل، غير أن الصديقين ركبا رأسيهما وأصرا أن لا يخرجا من باب الجامعة إلا بعد أن يستنفدا كل وسائل «التمويه الاستراتيجى» وتطبيق نظرية «الحرب خدعة» بحذافيرها، لهذا اختفيا من أمامى دقائق معدودة ثم فوجئت بهما يعودان وقد استبدلا سترتيهما من دون أن يهتما بالاختلاف البيّن والفادح فى طول وعرض كل منهما!! قاومت الضحك من منظر الصديقَين، وتحرك ثلاثتنا نحو باب الجامعة الصغير المقابل لمنطقة بين السرايات (عملًا برضه بمبدأ «الحرب خدعة») غير أننا ما أن خطونا خطوة واحدة بعد الباب حتى وجدنا الأفق كله ينسد أمامنا، إذ انشقت الأرض عن حائط من جثث ضخمة انتصب فجأة قاطعًا الطريق علينا، وفى لمح البصر انقسمت هذه الحيطة إلى حيطتَين كبراهما انقضّت على الصديقَين، وتفرغت الثانية لعبد الله الفقير.. وبينما أنا مُنتزع وغائص تمامًا فى بئر الجثث، كان بمقدورى أن ألمح على وجهَى رفيقىّ فى رحلة السجن التى بدأت لحظتها، علامات دهشة واستغراب شديدين، وبدا كلاهما كأنه يسأل نفسه: لماذا يا ترى لم تنجح خطة التمويه الاستراتيجى القائمة على تبادل الجاكتَّتَين؟! لحظتها لم يكن بوسعى أن أقول لهما: إن الخطة فشلت ليس بسبب ذكاء المباحث، ولكن لأن هذه الأخيرة قررت القبض على الجاكتَّتَين وخلاص، ثم بعد ذلك تفرز وتتعرف على الساكنين فيهما، براحتها!!