فى إحدى دورات مهرجان الفيلم العربى فى باريس (أسسه فى الثمانينيات الإعلامى الراحل غسان عبد الخالق بدعم من وزارة الثقافة الفرنسية، التى بالتالى لم تتردد فى أن تستولى عليه وتستبدله بمهرجان السينما العربية فى باريس تحت رعاية معهد العالم العربى الذى فى النهاية تخلى عنه تماما)، اتصل بى مدير مهرجان «الملتقى» السينمائى فى «جيندو» يدعونى للمشاركة، خصوصا أن المسؤولين عن المهرجان تكرموا باختيار اثنين من أفلامى ليتم عرضهما ليلة الافتتاح. وبما أن المهرجان خصص تلك السنة مهرجانه لسينما الجنوب.. أى جنوب كان سواء فى الشرق أو فى أوروبا أو حتى فرنسا ذاتها، حيث اتضح أن «جيندو» تقع كذلك فى الجنوب الفرنسى، فكان من الصعوبة الاعتذار عن الحضور، وهذا استدعى أن أخطط للعودة مرة أخرى إلى فرنسا سريعا، ولمدة أربعة أيام فقط بسبب ارتباطى المسبق ببعض الأعمال فى القاهرة. وقبل أن أنطلق فى هذه المغامرة بحثت عن «جيندو» فى خرائط الأطلس، ولم أنجح فى العثور عليها حتى إننى اكتشفتها بنفسى عقب وصولى إليها، إنها قرية صغيرة جدا «عدد سكانها حينذاك لا يتجاوز الثلاثين فردا»، تقع فى جبال ووديان مزارع العنب، وتبعد نحو 130 كيلومترًا عن مدينة تولوز. فى هذه القرية الجميلة تجتهد مجموعة من محبى السينما فى إقامة هذا المهرجان عاما بعد عام -حضورى تزامن مع الملتقى الرابع عشر للمهرجان- وتتم العروض فى الهواء الطلق، وتنتقل من قرية إلى أخرى طوال الأيام الثمانية للمهرجان. من الطريف أن سكان «جيندو» والقرى المجاورة يستضيفون ضيوف المهرجان فى بيوتهم لعدم وجود فنادق قريبة، وأعتقد أن هذه الروح التى تشيع من وجوه السكان تعكس دفء هذا المهرجان الفريد، ويكفى صمود المتفرجين وهم يحمون أنفسهم من لسعة برد ليل شهر سبتمبر، ليسهروا كل ليلة من حلول الظلام إلى ما قبل الفجر ليشاهدوا أفلاما جديدة على عالمهم، وأحيانا كثيرة غريبة بالنسبة إليهم. وقد بدأ الافتتاح برقصة فرعونية تحية للسينما المصرية صممها فريق محلى ثم عرضوا لى فى تلك الليلة «أحلام هند وكاميليا» و«فارس المدينة»، وكم أيقنت أن من عالم كاميليا إلى عالم فارس عاش المتفرج مع مدينتى التى أعشقها وأجد فى تناقضاتها سحرا وفى آلامها حنانا وفى كيانها إنسانية.. فى «جيندو» تأكدت هذه النظرة. مرت الأيام الأربعة التى قضيتها فى هذه البقعة من فرنسا أسرع مما توقعت لأستعيدها على متن الطائرة التى أعادتنى إلى مدينتى، ولتصبح مثل الحلم الجميل.