وقال تعالى «ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ». (الحج: 32) وهذه إِشارة روحية، إذ إن هذا التعظيم للشعائر التى فرضها علينا الحق سبحانه، يعد من عمل القلوب العامرة بحب خالقها، وهو دليل على التقوى، وإخلاص النية لله. فالمقصود من أداء شعائر الحج، أو المناسك عمومًا، هو إصلاح السر العابد فينا من يوم الذرّ، أو شحن هذه القلوب الزكية بتقوى الله. فكما قال تعالى «لن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ». (37-38) فهذه الأضحية التى تقدم إلى الله، ونكبر باسمه عليها، لن تصل إليه، وإنما الذى يناله منا هو هذه التقوى المستقرة فى أعماق قلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهؤلاء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فالمولى عز وجل يدافع عنهم، ويحميهم من كل الشرور، ويسوقهم إلى جنات النعيم. وتستمر الآيات البينات: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ». (39-40) فالحق سبحانه وتعالى ينصر من ينصره، فهو القوى العزيز، وهو بالتأكيد قادر على نصرة عباده بغير قتال، وكثيرًا ما يحدث هذا، ولكنه يريد -أيضا- من عباده أن يبذلوا جهدهم فى طاعته، حتى الوصول إلى مرتبة الاستشهاد فى سبيله. وفى ذلك إشارة إلى رابطة جليّة بين الجهاد فى سبيل الله، وأداء مناسك الحج الأكبر. وثمة حقيقة وجودية ترتبط بطبيعة الوجود الإنسانى على هذه الأرض، وقد بينها لنا المولى -عز وجل- فى هذه الآية الكريمة، فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لفسدت الأرض ذاتها، وهدمت صوامع، وهى المعابد الصغيرة للرهبان المتوحدين، والبيع أوسع منها، وتخص مجموعة من العابدين لله، سواء كانوا نصارى أو يهودًا. ويقال هى كنائس اليهود أو كنائس النصارى. أما الصلوات فهى معابد الصابئين. ثم مساجد المسلمين، وجميعها يُذكر فيها اسم الله كثيرا. وقال تعالى «فكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ». إذ إن الله سبحانه قد يملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. وأينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج مشيدة. فثمة عبرة واضحة لمن يعتبر، فإنها لا تعمى الأبصار عن مشاهدات الوقائع والأحداث والعبر، ولكنها تعمى القلوب التى فى الصدور عن فهم الحقائق الكبرى. (يتبع)