تأتى فريضة الحج كل عام لتقربنا من الله عز وجل، ولتعيننا على تدبر المعانى والقيم والمثل التى ترسخها فى النفوس لتكون لنا نبراسا يضىء لنا الطريق، سواء كانت تلك القيم والمثل دينية أو دنيوية نصلح بها دنيانا ومعاشنا، فالمتدبر لمناسك الحج وأعماله يجدها تُصلح من حالنا على كافة المستويات العامة والخاصة، أفرادًا وجماعات؛ لتعيدنا إلى الطريق المستقيم الذى يصلح به حالنا. فعبادة الحج يرتبط بها وجدان كل مسلم، خاصة عند ما يطأ بقدميه أو يشاهد بعينيه الأماكن المقدسة التى تحن إليها القلوب وتهفو إليها النفوس، وهى الأماكت التى شهدت مولد الدولة الأولى التى أرسى دعائمها ومقوماتها الرسول المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم. ونجد أن هناك سورة كاملة فى القرآن الكريم باسم الحج تتضمن العديد من الأسس التى تبنى عليها الدولة، فتحدثت السورة عن بناء الإنسان وإعداده وهى أول الأسس التى تقوم عليها الدولة وأهمها، وذلك بتربيته عبر مسارين؛ الأول: هو إعداده ذاتيا بالترغيب والترهيب لزرع تقوى الله فى نفسه؛ ليكون مواطنًا صالحًا تقوم على أكتافه نهضة بلده، فالدولة التى تنشأ على تقوى الله تبارك وتعالى لا بد لأفرادها من التذكرة الدائمة باليوم الذى سيقف الجميع فيه أمام الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2)}. أما المسار الثانى فهو تعويده على الطاعة المطلقة لله ورسوله، وهذا واضح وجلى فى الحج ومناسكه التى أوردتها السورة، فالأصل فى العبادة بصفة عامة قيام المسلم بأدائها دون انتظار لفهم الحكمة منها «خذوا عنى مناسككم»، وعامة أعمال الحج يؤديها المسلم طاعة، ولا دخل للعقل فى تعليق تلك الطاعة أو ترك بعضها لأنه لم يفهم حكمتها. ونجد أن السورة قد تحدثت عن مجموعة من الأحكام والقيم وطبيعة التشريعات والأحكام التى تنظم الدولة، وكيفية حمايتها وفق قانون الدفع {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} وأن الله ناصرٌ من ينصره{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِى عَزِيزٌ} وذكر الهدف الأساسى من إقامة الدولة الذى نسعى إليه جميعا {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}. واختتمت السورة بإجمال التكاليف التى يحملها المسلم بصيغة الأمر، وهى أوامر واجبة النفاذ كما قال العلماء "مقتضى الأمر الوجوب" {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)}. والحج فرصة عظمى للتزود من التقوى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِى الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِى يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ} والتقوى غاية الأمر، وجماع الخير، ووصية الله للأولين والآخرين، وهو من أهم أسس ومقومات بناء الدولة؛ فمراقبة الله وتقواه وخشيته دعائم أساسية لإقامة الحكم الرشيد، الذى يفرق بين الحرص على جمع المال الحلال وترك الغش والغبن والربا والتطفيف. والحج يمثل قمة التجرد والأخوة الإسلامية التى تعين على بناء ونهضة الدول؛ فالقبلة واحدة والرب واحد، والمشاعر واحدة، واللباس واحد، والمناسك واحدة، والزمان واحد، فكل هذه الأمور تجتمع فى الحج، وهى مدعاة للإحساس بوحدة الشعور، وموجبة للتآخى، والتعارف، والتعاون على مصالح الدين والدنيا. ويرسخ الحج فى النفوس مراقبة الله –عز وجل- فى شتى شئونه وأعماله؛ فلا تراه يزيد فى الجمار أو ينقص، ولا تراه يفعل عملا من أعمال الحج فى غير وقته، ولا تراه يأتى محظورا من محظورات الإحرام عامدا متعمدا؛ لذا فهو دائم المراقبة لله فى سره وعلنه، وهو ما نحن فى أشد الحاجة إليه الآن بلا أدنى شك، لمن يتقلد المناصب العامة أو شئون البلاد والعباد. كما يعين الحج على اعتياد الذكر، فالذكر مقصود العبادات الأعظم، والذكر يتجلى غاية التجلى فى الحج، فما شرع الطواف ولا السعى بين الصفا والمروة، ولا رمى الجمار إلا لإقامة ذكر الله. فإذا أكثر الحاج من الذكر فى تلك المواضع أنس بالذكر، واطمأنت نفسه به، وزاد قربًا من ربه، ومن كانت تلك صفاته وسجاياه وكان الله حاضرا فى قلبه وذهنه وعمله فهو الأنسب والأفضل لائتمانه على مصالحنا؛ لأنه لن يخون الله فينا، وعلى أكتافه وأكتاف أمثاله تقوم النهضات وتتقدم الأمم. ونستفيد من الحج عبودية انتظار الفرج وعدم اليأس، وهو من أجلّ العبوديات، وأفضل القربات؛ فلا ييئس من روح الله وقرب فرجه مهما استبد الألم، ومهما عظم المصاب، سواء فى حاله أو فى حال أمته، بل يكون محسنا ظنه بربه، منتظرا فرجه ولطفه، وقرب خيره. ويعيننا الحج على اكتساب مكارم الأخلاق، فهو ميدان فسيح لمن أراد ذلك؛ فالحاج يتدرب عمليا على الحلم، والصبر، والكرم، والبذل، والإيثار، والبر، والرحمة، وكظم الغيظ، والتعب، والنصب، سواء فى الطريق إلى الحج، أو فى الطواف، أو فى السعى، أو فى رمى الجمار، أو فى غيرها من المناسك. فإذا تحمل الحاج تلك المشاق فى أيام الحج صار ذلك دافعًا لأن يتخلق بالأخلاق الجميلة فى جميع أحواله، وهؤلاء هم الأجدر ببناء الدول على منظومة القيم والأخلاق التى نحتاجها الآن. ومن دروس الحج العظيمة التى تعد من مقومات قيام الدولة: عبودية المراقبة والتعود على اغتنام الأوقات، وعبودية الشكر، وكثرة الدعاء، وتذكر الآخرة، واعتياد مراغمة الشيطان وتحقيقُ التوحيد لله. فما أحوجنا للتحلى بدروس وعظات وعبر الحج لبناء نهضتنا وبلدنا وترك الفرقة والاختلاف والشقاق التى تهدم ولا تبنى وتدمر ولا تحمى! فلنأخذ من الحج درسا علميا للتغيير والانطلاق نحو آفاق رحبة لبلادنا وأوطاننا.