فى الوقت الذى كان يُظن أننا على موعد مع قرب الاحتفال بحرية المصريين، واستعادتهم الأوضاع الطبيعية، مثلهم مثل غيرهم من سائر البشر، فاجأتنا الدوائر الحاكمة (المجلس العسكرى، ومجلس الوزراء)، بتصعيد خطير للأحوال الأمنية فى البلاد، وفى استعادة بائسة لأسوأ مظاهر الاستبداد والتسلط، وقمع الحريات فى تاريخ مصر المعاصر، قاما باتخاذ قرار ب«تفعيل قانون الطوارئ» حفاظا على هيبة الدولة، والتزام مصر بالقوانين الدولية، خصوصا فى الحفاظ على السفارات والبعثات الدبلوماسية! ورافق صدور هذا القرار، «تكشيرة شرسة عن الأنياب»، ممثلة فى إحالة ثمانية وثلاثين مواطنا، (ستتلوهم أعداد أكبر بالتأكيد)، إلى محاكم أمن الدولة- طوارئ، وهى محاكم استثنائية سيئة السمعة، لا تكفل الضمانات الفعلية للمتهم، وكانت تسمح، تاريخيا، بتنكيل الحاكم بمعارضيه، والسياسيين، أساسا، دون أن تكون لديهم فرص حقيقية للدفاع عن النفس! السبب الرئيسى، المعلن، لهذه الإجراءات الصادمة، ما حدث بعد وقائع «جمعة تصحيح المسار»، 9 سبتمبر الماضى، فى محيط السفارة الإسرائيلية، ومقابل «مديرية أمن الجيزة»، غير أن هذا الأمر لا يمكن النظر إليه، دون ربطه بخلفياته المشحونة بعناصر التفجير، وفى المقدمة إقدام الإسرائيليين على قتل 6 من العسكريين المصريين، دون أدنى مبرر، وفى ظل الانتهاك المستمر للسيادة المصرية فى سيناء، وبدم بارد. وقد استفز المصريين، لا العدوان الصهيونى فحسب، وإنما كذلك الغطرسة الإسرائيلية، التى رفضت حتى مجرد الاعتذار عن الجريمة. لكن الأمر الأدهى، والذى كان أحد الأسباب الرئيسية للانفجار، كان رد الفعل الرسمى المصرى، الذى بدا شديد التراخى، ووقف عاجزا حتى عن اتخاذ أبسط الإجراءات التى تحمى الكرامة الوطنية، كاستدعاء السفير المصرى من «تل أبيب»، للتشاور، تعبيرا عن الاستياء مما حدث، بل وزاد الطين بلة، بناء جدار حاجز، يحمى السفارة الصهيونية، يُذكرنا ليل نهار، ب«جدار العار»، الذى أحاط به الصهاينة شعب فلسطين، وأرضه السليبة! وثانيا، لا يمكن قراءة ما حدث من وقائع، دون استدعاء ملامح التصعيد الدائب لأوضاع الاحتقان المجتمعى، بسبب الصدامات المتتالية بين الشرطة والمواطنين، لأوهى الأسباب، السياسية والاجتماعية، وآخرها الصدامات الدامية مع «ألتراس الأهلى والزمالك»، وغيرهما من تجمعات مشجعى الكرة، فضلا عن الترويع المستمر، المنظم والمقصود، من جحافل قوات «البلطجة» والمجرمين والخارجين عن القانون، الذين أطلقوا لبث الفزع فى نفوس المواطنين، تحت سمع «الدولة المصرية»، بجلالة قدرها، دون أن تتحرك لوضع حد لها، فى ظل الغياب العمدى لقوات الأمن من الشارع المصرى، حتى تتأكد تهديدات الرئيس المخلوع، حسنى مبارك: «أنا.. أو الفوضى»! غير أن هناك أيضا شبهات أخرى مريبة، لتفسير غياب القوى المنوط بها حماية السفارة، وعناصر الاستفزاز المحرضة على التوجه نحو مديرية أمن الجيزة، يجب أن تُظهرها تحقيقات فورية مُحايدة، بعيدا عن الاتهامات التقليدية بوجود «أصابع أجنبية» مُخربة، تقف من وراء ما حدث! لقد عاشت مصر أغلب عقود القرن الماضى، والأعوام الواحد والثلاثين الأخيرة، أى طيلة عهد الرئيس المخلوع، فى ظل حالة طوارئ مستمرة، وفى ظلها شهدت مصر ثلاث ثورات كبرى: (ثورة 1919، وثورة يوليو 1952، وأخيرا ثورة يناير 2011)، وانتفاضات شعبية ضخمة (مثل 18 و19 يناير 1977)، وآلاف الاحتجاجات الطلابية والمهنية والعمالية والفلاحية... إلخ، دون أن تمنعها، أو تعوق انتشارها قوانين الطوارئ، أو المحاكم الاستثنائية، بل كان العكس هو الصحيح، فلقد استنامت النظم الحاكمة إلى هذه الأداة الباطشة، واستخدمتها «عمّال على بطّال»، فى مواجهة من يستحق أو لا يستحق، فأسست لعهود من القهر والاستبداد، وفى حواشيها عشش العنف والقمع والإرهاب، وعاث المفسدون، دون رادع، حتى أغلقوا كل منافذ الحرية والتغيير الديمقراطى والنهوض بالوطن.. ومن هنا وجبت الثورة! وإذا أردنا مخرجا حقيقيا، آمنا وأمينا من المأزق الراهن، فعلى ولاة الأمور أن يضعوا نُصب أعينهم، صباح مساء، أنهم يحكمون بموجب شرعية ثورة فريدة، شارك فيها الملايين، وسقط على أعتابها شهداء أبرار وآلاف من الجرحى والمصابين، ثاروا، لا من أجل أن يروا، وبعد كل تضحياتهم، فى صدارة المشهد، نفس الوجوه الشائهة التى كانت تطل عليهم قبل الثورة، ونفس السياسات الممجوجة التى عاشوا فى ظلالها عيشة العبيد، حتى انتفضوا فى مواجهتها! وإذا كان ذلك كذلك، فإن المهمة الرئيسة الآن لاحتواء انزلاق الأمور إلى وضع نكرهه جميعا، ونريد تجنبه، هو أن يعيد المجلس العسكرى ومجلس الوزراء تقييم وتقويم قرارات تفعيل قانون الطوارئ، وتنشيط محاكم أمن الدولة، وليس عيبا أبدا أن يتم العدول عنها، إذا ثبت أنها لن تحقق الغرض المستهدف من طرحها، بل والمؤكد أنها ستزيد من عناصر التوتر والاحتقان، والحكمة تقتضى البحث عن بدائل ممكنة، تقوم على أساس إدارة حوار حقيقى، هدفه تسريع وتيرة تحقيق مطالب الثورة، العادلة والمعروفة، حتى نتجنب إضاعة الوقت، وتبديد الجهد، واستنزاف الطاقة، ولننتقل إلى أهم غايات الثورة، وقدس أقداسها: بناء «مصر الجديدة»، دولة الحداثة والتقدم، والمواطنة والعدل، والحرية والقانون، ومجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة: كرامة الوطن، وكرامة أهله ومواطنيه.