من أجمل ما فى الإنسان قدرته العظيمة على الحب، لكننا للأسف الشديد نحول هذا الحب -بواسطة نظرتنا المادية- من عاطفة روحانية راقية تحثنا على التضحية والبذل والإيثار والفداء، إلى رغبة مادية تدعونا إلى امتلاك الأشياء المحبوبة، والاستحواذ على من نحبهم. إنه نفس المنطق المادى الذى يحول كل شىء حى فى هذا الكون إلى مادة ميتة بلا روح! تخيل نفسك -على سبيل المثال- تسير فى وسط حديقة غناء، وتنظر حولك فتشاهد الخضرة الجميلة، والأشجار المثمرة، والزهور البديعة، وجداول الماء. تستمتع بكل هذا الجمال، وأنت تستمع إلى أصوات الطيور مع خرير الماء المنساب فى الجداول. الإنسان السوى سيعشق هذا الجمال الطبيعى، فيتأمل فيه، ويتفكر فى ما وراءه، بينما ثمة من سيوجه اهتمامه كله إلى كيفية امتلاك هذه الحديقة الرائعة. ومن ثم فلن يستمتع بحلاوة جمالها الأخاذ، وحتى حين ينعم عليه المولى عز وجل، ويمتلك هذه الحديقة فعلاً، سيظل يفكر فيها بمنطق المكسب والخسارة، ولن يتمكن من تذوق روعة جمالها الإلهى! وحين يُحب الإنسان إنسانا آخر، فإما إنه سيسعى بكل قدراته من أجل إسعاد محبوبه، لدرجة أنه قد يضحى بنفسه فى سبيل من يُحب، وإما أنه سيسعى للاستحواذ على محبوبه بأى طريقة، لدرجة أنه سيحاول أن يمتلكه امتلاكا، وكأنما هو شىء من الأشياء، فهذه هى طريقته الوحيدة فى التعبير عن الحب، بلا مشاعر عاطفية، ولا عطاء إنسانى، وهذه هى نظرته السطحية تجاه كل ما ومن فى الكون! فإذا انتقلنا من حب الأشياء، وحب البشر، إلى الحب الأعظم، حب الخالق سبحانه وتعالى، فسنكتشف بسهولة أن أصحاب النظرة المادية غير قادرين على هذا النوع من الحب الروحانى. ومن ثم فهذا النوع من الحب الإلهى لا يتذوقه كل البشر، وإنما هو من خصائص أصحاب القلوب السليمة والأرواح الشفافة، ولذلك يقول أبو حامد الغزالى فى موسوعته الخالدة «إحياء علوم الدين»: «المعقول المقبول عند ذوى البصائر حب الله تعالى فقط، كما أن المعقول الممكن عند العميان حب غير الله تعالى فقط». فمن يتأمل فى نعمه، وهى لا تعد ولا تحصى، يقع لا محالة أسيرًا فى حبه سبحانه وتعالى. لذا يقول ابن قضيب البان: «رأيت كيفية المكر الإلهى فى صورة المحبة وكيفية استدراجه القلوب الغافلة عنه إلى المعرفة به» ويقول الشبلى: «ولولا أنه تعالى بدأهم بالمحبة وهداهم لما أحبوه» فحتى حبنا له -عز وجل- هو من فضله وكرمه علينا. وهذا الحب العظيم منبع لكل الأفعال الفاضلة، وهو الذى يسمو بالإنسان من ضيق الرؤى المادية، إلى سعة رحمة الله الواسعة، فنسمع حافظ الشيرازى يقول: «الحب يكون حيث يسقط عن وجهك قناع العظمة. وسيان فوق حوائط دير، أو فى أرض حان تتلعلع النار المقدسة».