فى الوقت الذى عاشت فيه مصر فضيحة فتنة طائفية بين مسلمين ومسيحيين بسبب احتراق قميص، فى دهشور، كنت أقضى 10 أيام فى الهند لحضور الدورة الثانية عشرة لمهرجان «أوسيان سينى فان للسينما الآسيوية والعربية». كانت الأخبار عن الحادثة غير واضحة لى ولغيرى، كنت أنا والوفد المصرى بالمهرجان نتابعها بين الحين والآخر، فقط لنفهم سبب اشتعال الفتنة. المرارة تملأ النفس وشعور القهر والعجز من بلد يسعى لهلاكه وشعب لا يتسامح مع الآخر كانا ملازمين لنا طوال أيام المهرجان، فالبلد التى أنعم الله عليها بنحو 80 مليون مواطن يحملون ديانتين اثنتين، يعجز أهلها عن التعايش المحترم بعضهم مع بعض، بينما نحن فى الهند حيث يعيش ما يزيد على مليار ونصف مليار مواطن يتحدثون ويعتنقون نحو 360 لغة وديانة، يتعايشون بتسامح يثير التأمل، وينعمون بتفاهم وانسجام قد يكتب فيه الفلاسفة ملايين الكتب. تلك أهم ميزة يجب أن تفخر الهند بها، فالمشاهدات اليومية التى أراها وأنا أقطع طريقى بين الفندق الفخم الذى أقيم فيه بين طرقات نيودلهى حتى الوصول إلى قاعات عرض «سيرى فورت» حيث مقر المهرجان، هى ما تَملّك عقلى خلال فترة إقامتى. مهرجان أوسيان سينى فان للسينما الأسيوية والعربية فى دورته الثانية عشرة اتخذ من السلحفاة رمزا له، التى تتكاثر وتنمو بجوار نهر يامونا فى دلهى، وهى رمز روحى يعبّر عن طول العمر والحكمة لدى الهنود، ويقام المهرجان برعاية نيفل تولى رئيس مؤسسة «أوسيان» للفنون، وهى مؤسسة غير ربحية تهدف إلى رعاية الفنون. فى اليوم العاشر للمهرجان أقيم حفل ختامه، وقد كان من المزعج أن يتغير موعد حفل الختام فى اللحظات الأخيرة دون علم غالبية الضيوف، فقد كان مقررا أن يقام فى السابعة مساء، ولكنه أقيم فى العاشرة، وهو ما جعل كثيرين يتغيبون الحفل. تم إعلان جوائز المهرجان وحصل فيلم «B.A. Pass» على جائزة أحسن فيلم فى مسابقة الأفلام الهندية إضافة إلى جائزة أفضل ممثل لبطله شادب كمال، أثارت الجائزتان فرحة حضور حفل الختام، خصوصا أنه من الأفلام التى حظيت باهتمام وإعجاب كل حضور المهرجان. الفيلم يدور فى إطار شديد الإنسانية.. شديد القسوة.. فى آن واحد.. حول مراهق على أعتاب الرجولة (19 عاما) تتحول حياته إلى مأساة بعد وفاة والديه فى حادثة، بعدما تركا له شقيقتين عليه أن يرعاهما. لا يجد هذا الشاب حلا ليعيش جيدا، سوى أن يبيع جسده للعجائز.. هو يحنو عليهن ويقدم لهن شبابه وفحولته وكلمات رقيقة تثير فرحتهن، وهن يبادلنه الحنان بشكل مادى.. ويعطونه ما يحتاج إليه ليحنو فى المقابل على شقيقاته.. حياة صادمة فعلا ولكنها قد تبدو مقبولة إنسانيا إذا نزعنا منها كل ما له علاقة بالبيع والشراء المادى. الفيلم ينطلق من منطق بحث البشر عن الحنان ولو تطلب الأمر أن يشتروه. وفى المقابل كان فوز السينما التركية بأربع جوائز فى المهرجان مثيرا لسخرية الحضور، فتركيا فازت بجائزة أحسن فيلم فى مسابقة الأفلام القصيرة بفيلم «Silence» (صمت)، وهو الفيلم الذى استحق الجائزة عن جدارة، خصوصا أنه قد فاز بجائزة مهرجان كان لأفضل فيلم قصير فى دورته السابقة، والفيلم يعرض لقصة شديدة القسوة والعذوبة لسيدة ترغب فى زيارة زوجها السجين.. هى كردية وهو مسجون فى السجون التركية.. مسموح لها بالزيارة، ولكن غير مسموح لها إلا بالتحدث بالتركية التى تجهلها تماما. زوجها سجين سياسى، وأحداث الفيلم تدور عقب الانقلاب العسكرى فى تركيا.. تترك الزوجة منزلها وأبناءها الثلاثة وتذهب لزيارة زوجها الذى لا تستطيع التواصل معه بالكلمات فقط لأنها تريد إهداءه حذاء جديدا! مَن قال إن البشر يتواصلون بالكلمات فقط؟ ومن أوهم الجيوش أن الحدود واللغة تمنعهم من فهم بعضهم بعضا؟! ومن قال إن كل صعوبات العالم تمنع زوجة محبة من رؤية زوجها وإهدائه ما يسعده ويسعدها؟! من جهة أخرى حصل الفيلم التركى القصير «Bus» على تنويه خاص بنفس المسابقة، الفيلم يدور حول رحلة شاب معاق من منزله إلى عمله، حيث يشاهد بعينه فى الأوتوبيس واقعة تحرش رجل بامرأة، ويمر الفيلم بطيئا ومملا رغم قصره (13 دقيقة) بمراقبة هذا الشخص لعملية التحرش مع إظهار عجزه عن فعل أى شىء، إلى أن تقرر الفتاة المتحرَّش بها أن تفجر ما يقلب حال كل ركاب الأوتوبيس، حيث تصرخ قائلة: «قنبلة.. قنبلة». الفيلم كان يمكن أن ينتهى فى 5 دقائق فقط، لذلك فقد كان منحه التنويه الخاص من قِبل لجنة التحكيم غريبا ومفتعلا، خصوصا أن نفس المسابقة تحمل ثلاثة أفلام أخرى أكثر أهمية: «حنين» الفلسطينى للمخرج أسامة أبو وردى عن تفاصيل حياة سيدة فلسطينية وحيدة. الفيلم يحفل بتفاصيل مدهشة وجذابة، ولا يوجد به سوى جمل حوار قصيرة جدا، فجماله فى مراقبته التفاصيل. كذلك كان هناك الكورى «Circle Line» الذى كان أكثر أفلام المسابقة عمقا وقوة من حيث الفكرة التى يتناولها عن عائل لأسرة تتكون من ابنة على أعتاب المراهقة وزوجة حامل على أعتاب استقبال طفلهما الثانى، بينما طُرد هو من عمله، ويقضى وقت العمل متجولا بين محطات المترو ويلتقى امرأة بائسة تتسول مع طفلها.. يعطف عليها ويعطيها من ماله، ليشاهدها وهى تبدل بطفلها فى محطة المترو طفلا آخر، ويقرر أن يفضحها عندما يراها.. كان مخطئا، وما شاهده كان موقفا آخر، فالمرأة لم تبدل بطفلها آخر، بل بدلت به دمية لأنه مريض، وهى يجب أن تمارس نفس العمل لتساعد فى علاجه. أى قسوة هذه الذى تدفعنا إلى القسوة بعضنا على بعض، بينما جميعنا نعانى من ظروف الحياة وقسوتها علينا؟! وعند إعلان فوز الفيلم التركى «Beyond the Hill» بجائزة أحسن فيلم فى مسابقة العمل الأول، سخر الحضور من الأمر، وسخر أحد المخرجين الهنود الشباب الذى استأذنته فى ذكر اسمه فرفض، من الأمر قائلا: لماذا لم يقولوا لنا إن هذا المهرجان برعاية السينما التركية؟! وبالطبع زادت نبرة السخرية وخفتت ردود الأفعال المرحبة مع فوز الفيلم التركى «Inside» بجائزة أحسن فيلم فى المسابقة الرئيسية للمهرجان، وهى مسابقة الأفلام الآسيوية والعربية التى شارك فيها 12 فيلما آسيويا وعربيا، والفيلم مأخو عن «ملاحظات من تحت الأرض» للأديب الروسى ديستويفيسكى حول رجل يكتشف نفسه بمواجهة ذاته والآخرين بعد سنين قضاها فى عالمه الخاص الذى يكره فيه الجميع، ولا يهتم بكراهيتهم له، ليكتشف فى النهاية أنه ليس أكثر من شخص بشع. الفيلم كان متماسكا ورائقا وراقيا رغم ما يؤكده من حقائق مؤلمة عن نفوسنا ونفوس أبطاله، لكن حصول تركيا على الجوائز الرئيسية فى كل مسابقات المهرجان عدا المسابقة الخاصة بالأفلام الهندية كان مثيرا للسخرية ولم يكن باهرا، خصوصا بعد احتفالية السفارة التركية بنيودلهى بالأفلام التركية الفائزة، وهو الاحتفال الذى بدا أنه مرتب ومقرر من أيام سابقة، ولم يكن مفاجئا! لكن جائزة الإخراج فى مسابقة الأفلام الآسيوية والعربية التى ذهبت للمخرج المغربى فوزى بن سعيدى عن فيلمه «بيع الموت» أعادت الثقة مرة أخرى بالمهرجان ولجانه، وتأكدت هذه الثقة مع فوز الممثل الإيرانى مانى حقيقى والممثلة الإيرانية ترانيه على دوستى، بطلَى الفيلم الإيرانى «استقبال متواضع»، كما أن فوز الفيلم الإندونيسى «Postcards From The Zoo» وحصول الفيلم اليابانى «قصة حب» على تنويه خاص بنفس المسابقة أسعد الجميع، خصوصا أن الجائزتين لم تذهبا إلى اى فيلم تركى، بعد أن حصلت جميع الأفلام التركية المشاركة فى كل أفرع المهرجان على جوائز. فى ختام المهرجان تحدثت رئيسة وزراء دلهى شيلا ديكسيت التى كانت ضيفا خاصا لحفل توزيع الجوائز، وهنأت ديكسيت نيفيل تولى مؤسس منظمة «أوسيان» الراعية للمهرجان وشكرته لدعم السينما فى الهند بجهوده الذاتية وبمهرجان أوسيان سينى فان، كما أعربت عن فخرها بدور مهرجانات كهذه فى تثبيت أقدام السينما الهندية حتى وصلت إلى المركز الثانى فى صناعة الأفلام عالميا. نعم الهند تنتج ما يعادل 1000 فيلم سنويا.. تترواح ما بين أفلام تجارية وبعضها متوسط القيمة، وطبعا مع كل هذا العدد من الأفلام المنتجة سنجد ربع هذا العدد أو ثلثه أفلاما ذات قيمة فنية.. العدد فى الهند ليس فى «اللمون» كما هو عندنا، فعدد السكان الكثير وعدد الأفلام الكثير وعدد الديانات واللغات، خلق ثقافة خاصة وقدرا من التباين والاختلاف الذى يرضى جميع الأذواق دون أن يتنازل أحد عن ذوقه لصالح الآخر، ودون أن يقتل أحدهم الآخر، ولكن فقط وببساطة الحياة مع الآخرين لا تتطلب سوى التفهم والتفاهم واحترام الآخر والانسجام والراحة لهذا التقبل والاقتناع بأهميته، ولا يصلح هنا قبول الآخر على مضض أو بالعافية. ملحوظة: الهند لم تصل إلى هذه الحالة من احترام الآخر إلا بعد تاريخ من التطاحن والقلاقل، ولهذا يقال إن البشر يجب أن يبدؤوا من حيث انتهى الآخرون لا من حيث بدؤوا. ولكننا نصر أن تبدأ من حيث بدأ الآخرون، وعموما مصر الآن ليست بلد المتناقضات الجميلة كما نتخيل، بل إن تناقضها أصاب أهلها بأمراض نفسية ستستغرق سنين طويلة لعلاجها، أما إذا أردت بلد المتناقضات فإنه بلا منافسة سيكون الهند، ذلك البلد متعدد الأجناس والأعراق والألسنة والأديان، الذى يحتل مركزا متقدما اقتصاديا -فى شوارع دلهى نادرا ما تجد سيارات أمريكية أو أوربية أو يابانية، فأغلب السيارات صناعة هندية خالصة- بينما يعيش بين جنباته ملايين بلا مأوى أو تعليم.. ينعم فيه البقر بمكانة خاصة، بينما لن تجد شارعا خاليا من مساكين افترشوا الأرصفة ليناموا أو يلتقطوا بعضا من رزق قليل.. خلاصة قراءتنا لتجارب الشعوب تحضنا على استيعاب اختلاف من نتعايش معهم برضا.. خلاصُ الهند لن يكون إلا بتقديس البشر وحياتهم كما يتم تقديس الحيوانات فيها تماما.. أما خلاص مصر فلن يبدأ إلا بتفهُّمنا منطق أن كائنات أخرى تعيش معنا فى هذا العالم أصلا!