تحقيق - صلاح لبن ومحمد مصباح: «عثرت على ملفات يعود تاريخها لفترة حفر قناة السويس الرئيسية عندما كان العمال يضعون بصماتهم على الأوراق حتى يتسنى لهم الحصول على اليومية» عبارة التقطتها «التحرير» من رئيس هيئة قناة السويس الفريق مهاب مميش، فتحت الباب للكشف عن وثائق تاريخية تنشر للمرة الأولى فى الصحافة المصرية، ويعود تاريخها إلى عام 1798م. طلبنا من رئيس الهيئة مساعدتنا فى تجميع هذه المستندات التاريخية، وهو ما تلقاه بترحاب مجريا اتصالاته من أجل تسهيل عمل فريق «التحرير» لإجراء زيارة لمبنى الإرشاد بقناة السويس، والتواصل مع أحد القيادات المشرفة على توثيق أعمال قناة السويس فى الوقت الحالى. تم افتتاح القناة 16 نوفمبر من عام 1869، عندما دعا الخديو إسماعيل أباطرة وملوك العالم وقريناتهم لحضور حفل افتتاح القناة، والذى كان حفلا أسطوريا، وصلت فيه مظاهر الاحتفال إلى مستوى فاق ما نسمعه عن حكايات ألف ليلة وليلة، ولم يقتصر دور قناة السويس منذ ذلك الوقت على خدمة التجارة العالمية، بل امتد إلى خدمة المجتمع فى مدن القناة (بورسعيد والإسماعيليةوالسويس)، بالإضافة إلى محافظات أخرى فى مصر، وكذلك خدمة العاملين بالهيئة. أربع وثائق تاريخية نادرة «التحرير» حصلت على وثيقة يعود تاريخها إلى عام 1798، وتتضمن خطاب توكيل المهندس لو بير كبير مهندسى الطرق فترة الحملة الفرنسية بإعداد دراسة للمشروع، والتى أظهرت بطريق الخطأ كما هو موضح بالوثيقة، ارتفاع منسوب البحر الأحمر عن البحر الأبيض، وبناء عليها تم إلغاء مشروع القناة فى أثناء الحملة الفرنسية، حتى جاء فيرديناند ديليسيبس فاستغل صداقته لوالى مصر محمد سعيد باشا، وحصل منه على امتياز حفر القناة فى الخامس من يناير عام 1856، واشترك فى حفر القناة أكثر من مليون مصرى، فى الوقت الذى كان فيه تعداد المصريين لا يتجاوز أربعة ملايين ونصف المليون نسمة، واستشهد فى حفرها الذى استغرق 10 سنوات، ما يقرب من 100 ألف عامل مصرى. وكما هو مذكور تاريخيا أن اللجنة المشكلة قامت بثلاث رحلات إلى منطقة البرزخ، إلا أن التقرير الصادر عن لجنة لوبيير كان خاطئًا، وذكر أن منسوب مياه البحر الأحمر أعلى من منسوب مياه البحر المتوسط بمقدار 30 قدمًا و6 بوصات، بالإضافة إلى رواسب وطمى النيل، وهو ما قد يتسبب فى سد مدخل القناة، مما أدى لتجاهل تلك الفكرة. واطلع مسيو فرديناند ديليسيبس وهو فى الإسكندرية على بحث مسيو لوبيير عن وصل البحرين، ومع ذلك اتجهت نفسه إلى تحقيق المشروع. وثيقة ثانية حصلنا عليها تتضمن برقية شكر وتقدير للمهندس ديليسيبس موجهة من الخارجية الفرنسية للإشادة بعمله فى حفر القناة ويعود تاريخها إلى ما قبل موعد الافتتاح بثلاث سنوات. وثيقة ثالثة تتضمن الأمر ببدء حفر قناة السويس، مؤرخة بعام 1855م. كما حصلنا على وثيقة رابعة تعود تاريخها إلى ما بعد بدء تشغيل قناة السويس، تشير إلى إنشاء تمثال ضخم لديليسيبس بمدينة بورسعيد على جهده فى حفر القناة وتم دعوة عدد كبير من المسؤولين إلى الاحتفال، لوضع التمثال عام 1899، كما هو موضح بالوثيقة. وبينما تعرض تمثال ديليسيبس إلى عملية تفجير عام 1956 عقب رحيل قوى العدوان، تظل دعوات عودة التمثال إلى قاعدته مرة أخرى متجددة تزامنا مع اقتراب موعد افتتاح قناة السويس الجديدة، والإعداد للاحتفال الذى ستدعو فيه مصر الرؤساء والملوك للمشاركة فى هذا الحدث الأسطورى. مصدر بهيئة قناة السويس، طلب عدم ذكر اسمه، قال «هذه الوثائق لم تنشر من قبل فى أى وسيلة إعلامية رغم أن عمرها يعود إلى فترة الحملة الفرنسية، حيث إن هناك صور دراسات لم يرها أحد من قبل، كما أن هذه الوثائق لم تخرج من الهيئة». رئيس هيئة القناة: الوثائق هدية للأجيال القادمة رئيس هيئة قناة السويس الفريق مهاب مميش أشار إلى أن الهيئة توثق كل عمل، منذ أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسى إشارة البدء فى هذا المشروع، وأنه تفاجأ عندما اطلع على الوثائق الخاصة بقناة السويس الرئيسية، لما تضمنته من أسرار تكشف قوة وصلابة الشعب المصرى الذى ضحى بالآلاف من أبنائه من أجل إنجاز هذا الحدث التاريخى، وأشار إلى أن الوثائق تعد بمثابة هدية للأجيال القادمة. وحول دوافع إنشاء قناة السويس الجديدة أوضح «وضعنا جميع الحسابات وجدنا أن كل يوم تمر 49 سفينة من قناة السويس كمتوسط، وأنه فى عام 2023 ستمر 97 سفينة فى اليوم، وإذا لم نقم بهذا الإنجاز كنا سنفاجأ أنه من المستحيل مرور كل هذه السفن نظرا إلى كثرتها وكانت ستنتظر بالأيام فى المجرى الملاحى وبالتالى سينعكس على تصنيفها، خصوصا أن قناة السويس أهم مجرى ملاحى عالمى، وفى نفس الوقت تكلفة هذا المشروع فى الوقت الحالى قليلة جدا مقارنة بالمستقبل، لكننا إذا كنا انتظرنا حتى وقوع مشكلة أو أزمة سندفع أضعاف التكلفة لذلك قمنا بالتفكير فى إنشاء قناة موازية». مقترحات قبل إشارة التنفيذ ظهر أكثر من مقترح قبل إنشاء القناة الجديدة، حيث كان هناك اتجاهان؛ إما أن يكون الإنشاء من الناحية العلوية أو أن تكون القناتان بجوار بعضهما، وجاء المقترح الثانى كأفضل مقترحات التطبيق العملى حتى تكون هيئة القناة قادرة على استخدام الخدمات البحرية فى قناتين، فى حين أن الاقتراح الأول يجعل هناك اضطرارًا لإنشاء خدمات بحرية جديدة، وهو بدوره ما يجعل قرب القناتين أفضل الخيارات لتقليل تكلفة الخدمات البحرية، بالإضافة إلى أن الاقتراح الأول يجعل المراكب تعمل على خط واحد، وحدوث أعطال قد يؤدى إلى إغلاق الملاحة فى قناة السويس، لذا فوجود قناة بديلة يعطى ميزة التناوب بين القناتين. وتبدأ القافلة الأولى من الشمال من مدينة بورسعيد فى العبور من الساعة الواحدة صباحا حتى الساعة الخامسة صباحا فى اتجاه واحد، حتى تصل إلى البحيرات الكبرى، ثم تبدأ فى الانتظار فى منطقة غرب البحيرات حتى مرور قافلة الجنوب القادمة من خليج السويس، وبالتالى لا يُسمح لقافلة الشمال بالعبور حتى عبور كل قوافل الجنوب، مما يصل بساعات الانتظار إلى 11 ساعة، ومع عبور آخر سفينة فى قافلة الجنوب من منطقة البلاح بالإسماعيلية، تبدأ قافلة الشمال بالدخول من منطقة بورسعيد فى اتجاه السويس، وتستمر فى العبور حتى تصل إلى منطقة البحيرات الكبرى، وهنا يكون عليها الانتظار أيضا نحو 11 ساعة. وتنقسم السفن من حيث الانتظار إلى شرق وغرب القناة، ويتميز شرق القناة بأنه أكثر عمقا من الغرب، ويستقبل السفن التى يصل عمقها إلى أكثر من 45 قدما داخل المناطق «E 01» ومنطقة «E 02»، ومنطقة «E 03»، والتى لا تستقبل أكثر من 8 سفن ذات غاطس أكبر من 45 قدما، ومع زيادة السفن الأكثر من 45 قدما فى شركات الملاحة العالمية، ولحل مشكلة الانتظار بمنطقة البحيرات بدأ الفريق مهاب مميش، فى التفكير فى حل تلك المشكلة، وتسهيل مرور السفن التى يصل عمقها إلى أكثر من 45 قدما، حتى 66 قدما. أول كراكة حفرت في القناة عام 1899 بعمق 300 متر «التحرير» حصلت أيضا على الصور القديمة لأول كراكة شاركت فى قناة السويس الرئيسية، وذلك بعد حفر قناة السويس الرئيسية بالطريقة البدائية، حيث اعتمدت قناة السويس بعد افتتاحها بنحو 30 عاما وبالتحديد عام 1899على الكراكات من أجل توسيع وتعميق القناة وكانت الكراكة الفرنسية أول من تعمل فى القناة من المعدات العملاقة وكانت تحفر وتعمق ما يقرب من 300 متر يوميا، حسب مصدر مسؤول بإدارة الكراكات بهيئة قناة السويس، الذى أوضح أن هناك تطورا عملاقا فى صناعة الكراكات فى العالم، حيث إن القناة الجديدة تشهد حاليا عمل 43 كراكة عملاقة فى أكبر أسطول كراكات عالمى يضم 75% من كراكات العالم، منها واحدة من أكبر الكراكات فى العالم وهى الكراكة Pearl river التابعة للتحالف البلجيكى الأمريكى والتى تستطيع أن تحفر 100 ألف فى اليوم الواحد وتعمل من أجل توسعة وتعميق منطقة الدفرسوار بمنطقة البحيرات. وبالمقارنة فإن القناة الجديدة تشهد معدلات عمل فائقة بشكل يومى حيث تم الانتهاء من أعمال الحفر الجاف بعد حفر 245 مليون متر بواسطة معدات 85 شركة مصرية، وتحت إشراف كامل من الهيئة الهندسية التى استطاعت أن تنهى كل هذه الكمية فى وقت قياسى جعلت هيئة قناة السويس تدخل بالكراكات داخل المجرى الجديد لقناة قبل موعدها المحدد بشهرين تقريبا، حيث تم حفر 221 مليون متر تحت مستوى سطح الماء بنسبة 85% من إجمالى الكمية المطلوب حفرها فى القناة الجديدة بالكراكات والبالغة 250 مليون مكعب تحت الماء وطولها 72 كيلومترا، كما استطاعت الكراكات التابعة للتحالف الإماراتى وعددها 23 كراكة أن تحفر 164 مليون متر مكعب بطول 35 كيلومترا بطول المجرى الملاحى الجديد لقناة السويس بنسبة 84%، وذلك من حجم الكمية المطلوب حفرها فى المجرى الملاحى الجديدة وهى 180 مليون متر مكعب، كما أن الكراكات التابعة للتحالف الأمريكى والبالغ عددها 13 كراكة استطاعت أن تحفر 45 مليون متر بنسبة 95% من حجم الكمية المطلوبة فى تلك المنطقة والبالغة 50 مليون متر فى توسيع مناطق البلاح والبحيرات، كما أن الكراكات التابعة لهيئة قناة السويس وعددها 6 كراكات استطاعت أن تحفر وتعمق 12 مليونًا من حجم الأعمال المطلوبة فى القناة الجديدة والبالغة 15 مليونًا فى تلك المنطقة. وبالتوازى مع أعمال التكريك تشمل التجهيز لبدء تركيب 110 شمندورات يتم تجهيزها الآن واستعانت هيئة قناة السويس بأحدث الشمندورات فى العالم، وتم تركيبها بالفعل وهى ذات إمكانيات حديثة جدا. عمال قناة السويس: قصة نجاح متوارثة دائما يكون العبء الأكبر فى المشروعات الاقتصادية الكبرى، مثل قناة السويس، على العامل الذى يبنى بسواعده حياة جديدة للأجيال، خصوصا أن أكثر من 100 ألف مواطن دفعوا حياتهم ثمنا لإنجاز قناة السويس القديمة، فى الوقت الذى يعمل على إدارتها فى الوقت الحالى 25 ألف عامل لا يوجد بينهم أجنبى. وتطور العمل داخل مشروع قناة السويس حيث بدأ بتوافد سيارات النقل، التى لم تتوقف عن نقل الرمال من المواقع إلى منطقة يطلق عليها العاملون فى مواقع الحفر «منطقة القلاب»، والتى كانت على بعد 3 كيلومترات من المعدية «6» شرق القناة، فى ذلك الوقت كان فى كل كيلومتر عدد من البلدوزرات لرفع الرمال لتضعها فى سيارات النقل. فى الأيام الأولى من حفر القناة الجديدة، لم تكن الخدمات متاحة للعمال بشكل كامل، نظرا إلى السرعة الفائقة فى عملية التنفيذ، وكان يتردد مئات العمال على شرق القناة، على الرغم من شدة الحرارة وتعامد الشمس على رؤسهم، ليبدأ العمل من خلال 30 شركة بالقناة الجديدة على بعد كيلومترين اثنين من المعدية «6» شرق، حيث تنتشر الخيام والمعسكرات على طول القناة الجديدة. وبدأ العمال يحملون على عاتقهم تنفيذ المشروع خلال عام، فالعامل يبدأ يومه فى قناة السويس الجديدة بتناول وجبة الإفطار الذى توفرها له القوات المسلحة، وذلك فى السادسة صباحا، ليبدأ العمل بعد ذلك مباشرة فى الوردية الأولى، والتى تبدأ من الساعة السادسة صباحا حتى السادسة مساء، وكان يتم توزيع الأدوار على العمال من خلال الشركات المتعاقدة مع هيئة قناة السويس، والتى كان يبلغ عددها نحو 30 شركة فى ذلك الوقت، وأغلب عمالها من منطقة شمال سيناء، والقليل منهم من محافظة الإسماعيلية. رئيس هيئة قناة السويس قال: الهيئة تتكفل بحلول لجميع مشكلات العاملين حيث نقتحم ونواجه كل أزماتهم، ونسعى دائما لتدريبهم لأنه محور النجاح فى كل حاجة، لإنه إذا لم يكن هناك تدريب لن نحصد سوى الخسائر، وأشار إلى أن العامل هو أساس أى إنجاز، وما قدمه العمال فى حفر قناة السويس الجديدة لا يقل أهمية عن الدور البطولى الذى قام به المصريون أثناء حفر القناة الرئيسية.