هل الهدف هو تقديم حقيقة تاريخية تؤكد أنه كان يعيش بيننا فى مصر يهود؟ هذا من الممكن أن تشاهده كوثيقة فى فيلم أمير رمسيس التسجيلى «اليهود فى مصر» بجزأيه الأول والثانى، مثلما رأينا مثلا قبل 15 عاما فيلم «الأرمن المصريون». العمل الروائى عندما يتكئ على حقائق تاريخية فإنه يرنو إلى هدف أبعد من قراءة الوثيقة، وهو الدلالة التى تقدمها والظلال التى توحى بها. وأظن أن هذا هو هدف الكاتب مدحت العدل فى مسلسل «حارة اليهود»، وهو يطل على مصر فى نهاية الأربعينيات حتى منتصف الخمسينيات لنعيش الواقع الذى كانت تحياه مصر، حيث لا يوجد مفهوم اسمه الآخر ولكن لدينا مصريون أولا، ومسلم أو مسيحى أو يهودى ثانيا. الوطن هو الذى يسكنهم قبل أن يسكنوه. صرنا مع الزمن لا تفرقنا فقط الأديان ولكن الطوائف، هذا سُنى وذاك شيعى، وهذا أرثوذكسى وذاك بروتستانتى، هناك شيعة قُتلوا وهناك مسيحيون تم تهجيرهم من بيوتهم. أظن أن العودة إلى زمن المصرى قبل وبعد الأديان هو الهدف وهو المطلوب الآن. مسلسل «حارة اليهود» به التباس لأننا نتاج صورة ذهنية توارثناها عاشت عليها الدراما المصرية فى تقديم الشخصية اليهودية بملامحها المعروفة، البخيل والأخنف، أما المرأة فإن الانحلال الأخلاقى هو القرينة المرتبطة بها، تلك هى الصفات العامة. المتلقى فى العادة يميل أكثر إلى التعامل مع المألوف حتى لا يستهلك وقتا أطول ويبذل جهدا فى التعرف على الشخصية ليعيد اكتشافها، والسينما قبل التليفزيون لعبت هذا الدور، ليس فقط فى تقديم شخصية اليهودى، بل فى كل الشخصيات، كان هذا هو المنهج حتى إن الممثل الذى يلعب دور الطبيب أو تاجر الذهب أو مدرس اللغة الفرنسية ينتقل من فيلم إلى آخر لأن المطلوب هو تسهيل الأمر على المشاهد. بالطبع هناك استثناءات مثل يوسف شاهين فى «إسكندرية ليه» وأحمد عبد الله فى فيلمه «هليوبوليس» عندما قدم عجوزا يهودية تتذكر أيامها الخوالى فى مصر الجديدة. الالتباس الحادث فى الشارع المصرى سببه أن إسرائيل فى أكثر من جريدة أشادت مسبقا بالمسلسل، كما أن السفارة الإسرائيلية بالقاهرة رحبت به فى حلقاته الأولى. هذا فى حد ذاته يدفعنا إلى الوقوف لا شعوريا على الجانب الآخر لأن عدونا الاستراتيجى سعيد، فعلينا أن نناصب هذا المسلسل العداء، وهى نظرة ساذجة، الواقع أن إسرائيل تضع دائما عينها على الدراما والأغنية المصرية، وكثيرا ما تم السطو عليها، مثلا موقفها من الموسيقار المصرى داوود حسنى اليهودى الذى كان أحد أعمدة الإبداع فى زمن سلامة حجازى والحامولى ومحمد عثمان واستمر فى زمن سيد درويش وعاش بعده 15 عاما، والذى أشار إلى موهبته هو الإمام محمد عبده ونصحه بالغناء والتلحين. وقدم داوود للحياة الفنية ليلى مراد، ومن أشهر أعماله «قمر له ليالى» التى أعاد تقديمها محمد العزبى. من كلمات داوود حسنى أن الموسيقى الشرقية سوف تستمر ما دام استمر القرآن، وكان دارسا للقرآن مثل أغلب الموسيقيين فى ذلك الزمان، كما أنه جمع بين التواشيح الإسلامية والترانيم فى الكنائس والمعابد، فكان نموذجا للفنان المصرى الذى تمتزج فيه مصر بكل تاريخها. إسرائيل أرادت أن تنسب تراثه إليها رغم أنه مات قبل احتلالها فلسطين بعشر سنوات. عاش ومات وطنيا، ولكن أحد الإذاعيين المخضرمين روى لى أنه كان لديه ابن اسمه كمال يعمل فى الإذاعة المصرية، استطاع أن يسطو على جزء من تراثنا الغنائى وأهداه فى الخمسينيات إلى الإذاعة الإسرائيلية بعد أن أقام فى إسرائيل، ولكن يجب أن نضيف أن داوود كان له سبعة أبناء، وأن واحدا منهم فقط هو الذى استبدل بمصريته إسرائيل. العمل الفنى الذى كتبه مدحت العدل وأخرجه محمد العدل لا يزال يتشكل أمامنا، اختار لحظة فارقة من الذاكرة المصرية كان فيها المحك هو الاختيار بين الانتماء الوطنى والانتماء الدينى، ولا تزال تلك اللحظة مع الأسف تنبض بالحياة!!