بعد أسابيع قليلة، تعيش مصر احتفالات وُصِفت بأنها «أسطورية»، تتولَّى الإعداد لها شركة عالمية، بتكلفة تصل إلى نحو 30 مليون دولار، أى ما يقرب من ربع مليار جنيه، وسط صخب المهللين لقرب تحقق المعجزة «الاقتصادية»، لكن الغريب حقًّا هو أن جل ما يسوقه لنا يومًا بعد يوم المسؤولون عن المشروع من مؤشرات ضربت «الأرقام القياسية» إنما نجدها مؤشرات «هندسية» لا «اقتصادية»، وما له منها صلة بالاقتصاد -وهو قليل- إنما يرتبط بمنطق علوم الاقتصاد كما يرتبط جهاز علاج الفيروسات الشهير بمنطق علوم الطب! أى طالب مبتدئ فى علم الاقتصاد يعرف عنه أنه علم البحث فى التوازنات والاختلالات، وأن أطراف التوازنات الاقتصادية لا تسير دومًا فى نفس الاتجاه، بل هى قد تتناقض وتتنافر، وقد يكون ثمن تحسين أوضاع بعضها أن تسوء أوضاع بعضها الآخر! مثلًا، قد يمكن كتحسين سعر صرف العملة المحلية، ولكن على حساب القدرة التصديرية للبلاد، بما فى ذلك انخفاض أعداد السائحين وعدد الليالى السياحية! وقد تستطيع حل مشكلة البطالة بخلق فرص عمل وهمية، ولكن على حساب معدل التضخُّم، وزيادة العجز فى الموازنة العامة، وربما أيضًا زيادة فى الدين العام، وانخفاض فى قيمة العملة، أو كل ذلك مجتمعًا! وقد تتمكَّن من تحقيق فائض فى الموازنة العامة للدولة، ولكن على حساب ارتفاع معدلات البطالة والفقر، وانخفاض حجم الاستثمار العام، مع ما يصاحب كل ذلك من ظواهر اجتماعية واقتصادية سلبية... إلى آخر هذه المعضلات: تنجز هنا وتخفق هناك، ولا مجال أبدًا لأن تصل بكل المؤشرات الاقتصادية الإيجابية إلى مداها!! المشكلة دائمًا هى معرفة ماذا ننجز وماذا نؤخّر أو حتى نستبعد من اهتماماتنا واحتياجاتنا لنحقّق أكبر قدر من كفاءة الأداء الاقتصادى!... المشكلة هى أن نعرف ماذا من المشاريع نسرع فى تحقيقه، وماذا نبطئ فى تنفيذه، لنعظم الاستفادة مما هو متاح لدينا من موارد، بعضها يحتاج دومًا إلى محفزات تشغيل وبعضها الآخر نادر بالضرورة! مثل هذه التوازنات وما تحمله من تناقضات بين أطرافها هى التى تعطى معنى لمفهوم «القرار الاقتصادى» الذى يخرج به متخذ القرار من فخ هذه التناقضات بأقل قدر ممكن من الخسائر وبأعلى قدر ممكن من المكاسب، مع الأخذ فى الاعتبار التباينات النوعية بين الخسائر بأنواعها: فمنها ما هو محتمل، ومنها ما يقصم ظهر الدولة، وبين المكاسب بأنواعها: فمنها ما يعمل قاطرة لقطاعات الاقتصاد الحاكمة ومحفزًا للنمو، ومنه ما هو ذو تأثير عابر لا يدوم ولا يؤثر فى استدامة النهوض بثروة الأمة! صاحب «القرار الاقتصادى» هو الذى يحدِّد كيف سيتم تخصيص الموارد، وما المتغيرات التى تعمل الدولة على رفعها أو خفضها، وبأى قدر، كى لا يختل عمل آلة التقدم الاقتصادى والسياسى والاجتماعى فى البلاد، وكى لا تتأثَّر سلبًا قدرات البلاد العسكرية والتكنولوجية والحضارية... ليس المهم هو أن تعمل بعض القطاعات بكفاءة، لكن المهم هو أن تعمل كل قطاعات الاقتصاد القومى. حزمة القرارات التى تتعامل مع العلاقة المعقدة بين كل هذه التوازنات، وبين كل هذه المكاسب والخسائر، وبين المنجز والجارى إنجازه والمؤجل، أخذًا فى الاعتبار كثيرًا من القيود والأهداف المتداخلة، هى التى تكون ما نسميه «السياسة الاقتصادية» للدولة، ونجاح أو فشل هذه «السياسة» هو الذى يصنع تاريخ الزعماء الذين نجحوا وأولئك الذين فشلوا فى وضع بلادهم على المضمار الصحيح. من السهل أن ندرس «علم الاقتصاد» وأن نتفوَّق فيه: من السهل أن ندرس التوازنات بين العرض والطلب تحت شروط مختلفة لمنحنيات العرض والطلب، ومن السهل أن ندرس التوازنات بين الموارد والحاجات تحت شروط مختلفة تخضع لها الموارد وأخرى تخضع لها الحاجات... يمكن للمرء أن يدرس وسائل كبح الحاجات وتعظيم الموارد سواء بالضرائب، على اختلاف النظم الضريبية، أو بغيرها من الأدوات... من الممكن دراسة كل هذه التوازنات -وغيرها الكثير- ولكن تحت شرط لا يخلو منه كتاب فى الاقتصاد، ولا هو يغادر منطوق أى نظرية اقتصادية، تمامًا كما لا يخلو منه كتاب من كتب العلم عامة، ولا يغادر منطوق أى نظرية علمية، وهو شرط نسميه باللاتينية «ceteris paribus» وترجمته هى: «مع بقاء كل شىء آخر على حاله»، أى بافتراض ثبات وعدم تغيّر أى من المتغيرات الأخرى التى تؤثر فى متغيرات النظرية وتتأثّر بها! لكن أيًّا من المتغيرات الأخرى هذه لا يبقى أبدًا على حاله، بل هى تتداخل العوامل والمتغيرات وتتفاعل مع بعضها بعضًا حتى يكاد منطوق أى نظرية اقتصادية يفقد قيمته العملية وسلطانه على الواقع إذا لم يأخذ انعكاس كل المتغيرات الأخرى على مرآته، وانعكاسه هو على مرايا كل ما عداه من متغيرات ونظريات، فى منظومة اقتصادية معقدة يحتاج فهمها إلى شىء من التواضع وشىء من الانتباه.. بعض هذه المتغيرات داخلى، وبعضها الآخر خارجى.. بعضها يكون من متغيرات القرار، أى يمكن لصاحب القرار أن يحدد قيمته ارتفاعًا وانخفاضًا، وجودًا أو إلغاءً، وبعضها الآخر يمثل قيودًا على السياسة الاقتصادية، والقيود لا يمكن تجاهلها ولا تجاوزها! يمكن لمتخذ القرار أن يرفع سعر الضريبة، وهو عمل من أعمال العقل، لكنه أيضًا عمل من أعمال العضلات، ولا بأس فى ذلك، فالدولة لا تكون دولة بغير عقل يوجهها وبغير عضلات تفرض بها عند الضرورة سلطانها وتعزز بها سيادتها، لكن عقل متخذ القرار عليه أن يعلم بأن زيادة الضرائب بغير ضوابط قد تترتب عليها تداعيات تتعلق بتوازنات أخرى داخل الاقتصاد القومى، بل إن رفع سعر الضريبة لا يؤدى بالضرورة إلى زيادة حصيلة الضرائب التى قد ترتفع إذا ما تم تخفيض سعر الضريبة!! هذا هو ما يجعل للسياسة الاقتصادية أهمية خاصة فى النهضة الاقتصادية للبلاد، ولهذا فلا يمكن أن توصف بالسياسة الاقتصادية جملة القرارات المتفرقة التى يرى كل منها على انفراد إحدى كفَّتَى كل ميزان من الموازين الاقتصادية ويتجاهل الكفَّة الأخرى بمنطق أنها سترتفع وحدها مع الأيام، مع أن ارتفاعها هذا لن يكون إلا بخفض الكفَّة الأخرى، وإلا بأخذ كل الموازين الأخرى فى الاعتبار عند اتخاذ القرار! دعونا نخرج من هذه المقدمة الطويلة إلى مشروع تفريعة القناة، إذ يمكن لصاحب القرار أن يصدر أمرًا يتعلَّق برسوم المرور فى القناة، رفعًا أو خفضًا، فى إطار ما تمليه اقتصاديات النقل البحرى من قيود على متخذ القرار الذى لا يملك اتخاذ قرار بشأن حركة التجارة الدولية، ومن ثَمَّ بشأن أعداد السفن التى تمر بالقناة! خذ مثالًا آخر عمق وسعة القناة، فالفيل الذى لم يكن فى استطاعته عبور الباب لن يمكنه العبور لو فتحنا له بدلًا من الباب بابَين! فقط توسعة الباب هى التى يمكنها أن تسمح للفيل بالمرور! فحفر تفريعة للقناة، بنفس سعة وعمق القناة الأصلية، لن يسمح لأحجام وحمولات جديدة للسفن بالعبور!! أضف إلى ذلك أن العلاقة بين سعة وعمق القناة وبين أعداد وحمولات السفن العابرة للقناة ليست علاقة خطية، وإنما هى –بلغة العلم- علاقة غير خطية، أى أن زيادة سعة القناة بمقدار 10% مثلًا، أو تعميقها بنسبة 10%، لن يزيد عدد السفن العابرة للقناة بنفس هذه النسبة، فقد لا تؤدّى مثل هذه التوسعة أو هذا التعميق إلى أى زيادة فى عدد السفن، وقد تؤدى إلى زيادة تتجاوز نسبة العشرة فى المئة! الأمر كله يتوقف على حجم التجارة الدولية التى تكون القناة على مسارها، أخذًا فى الاعتبار أعداد وأحجام السفن التى تحمل هذه التجارة، ضمن متغيرات وعوامل أخرى كثيرة يأخذها خبراء النقل البحرى فى الحسبان. شىء ما إذن يحدِّد كفاءة وجدوى مشروع ضخم كمشروع شق تفريعة القناة غير مجرد القدرة الهندسية على تنفيذه.. شىء آخر يتعلق بالعقل وكلياته لا بمجرد العضلات وجزئياتها، ودعونا نتناول هنا تصريحات السيد الفريق رئيس هيئة القناة، والسيد الأستاذ الدكتور مستشاره الإعلامى، بشأن مؤشرات العمل فى المشروع، مما قرر المستشار الإعلامى أنه جدير بالتسجيل فى موسوعة جينيس للأرقام القياسية، بل هو مقتنع -ويريد إقناعنا- بأنها مؤشرات تستحق تخصيص مجلد خاص بها سماه -على عادتنا فى المبالغة- «جينيس 2»!! دعونا نصدقهما فى ما ذهبا إليه، ولنشد على أيديهما إن هما أقنعا المسؤولين عن موسوعة جينيس بإصدار «جينيس 2» لتتضمن المؤشرات القياسية لمشروع حفر تفريعة قناة السويس، ثم دعونا نأخذ من هذه المؤشرات القياسية اثنين لا ثالث لهما: أعنى المدة القياسية التى استغرقها المشروع، وهى عام واحد بدلًا من خمسة أعوام، ثم عدد الكراكات التى تعمل فى المشروع، وهو ما قدره رئيس الهيئة بنحو 75% من عدد الكراكات المتاحة على مستوى العالم!! هل هى أرقام قياسية تثير الفضول؟ بالتأكيد! ولكن ماذا عن التوازنات؟ ماذا عن الكفة الأخرى من الميزان، كما يقول لنا علم الاقتصاد، وكما تقول لنا أى سياسة اقتصادية رشيدة؟ ماذا عن حضور العقل الاقتصادى فى مواجهة هذا الحضور الطاغى للعضلات الهندسية؟! الحقيقة هى أن اختصار مدة التنفيذ إلى عام واحد بدلًا من خمسة لم يكن له أى منطق اقتصادى، فالقناة بوضعها الذى كانت عليه قبل حفر التفريعة كانت قادرة على استيعاب أعداد أكبر من السفن ولسنوات كثيرة قادمة، لكن اختصار المدة –وهذا أمر طبيعى– رفع تكلفة تنفيذ المشروع، وأكبر مصدر من مصادر رفع التكلفة كان الحاجة إلى استعانة المشروع بثلاثة أرباع الكراكات الموجودة عالميًّا، وهو ما لم يمكن أن يتحقق عمليًّا إلا بتكلفة عالية، وإلا باستنزاف مورد نادر للغاية فى هذه المرحلة «الصعبة» هو العملة «الصعبة»!! بالطبع، نحن لا نعرف شيئًا عن مفردات تكلفة المشروع، ولا نعرف حتى إن كانت هناك هيئة رقابية يمكنها أن تقدّم للشعب المصرى دراسة محاسبية واقتصادية رصينة عن «حقائق» المشروع الاقتصادية، لا عن حقائقه الهندسية فحسب. ما نعرفه فقط هو أن مشروع السنوات الخمس الذى كان قائمًا فى الأساس إنما انبنى على حسابات أن تعمل الكراكات المملوكة لهيئة قناة السويس خمس سنوات بدلًا من سنة واحدة، لكن تنحية العقل الاقتصادى وإعلاء لغة العضلات الهندسية هو الذى جعلنا نحتفل بمؤشرَين قياسيَّين تسببا –بلغة الموازين الاقتصادية– فى إهدار «قياسى» للموارد الاقتصادية، ولا أعرف أيهما سيهتم رئيس هيئة القناة ومستشاره الإعلامى بتضمينه موسوعة «جينيس 2»؟!