لست من المتحمِّسين للكتابة عن الكُتَّاب والأدباء والروائيين بمجرد قراءتى لأحد أعمالهم، فهذا تسرّع مبالَغ فيه، وقد يكون ظالما! لكن عند قراءة رواية «منافى الرب» للأستاذ أشرف الخمايسى، تُدرك وعلى الفور وتتيقَّن أنك أمام روائى وأديب غير عادى! فى بعض الأحيان تُزين الجائزة بفائزيها، وجائزة «البوكر» العربية خسرت عندما لم تفز بها رواية «منافى الرب»! الخمايسى ليس أديبا فقط، لكنه فيلسوف ومفكِّر من طراز رفيع جدا! وبالفعل أثبتت روايته الأخيرة «انحراف حاد» مدى تمكنه من صياغة أفكاره العميقة والفلسفية مع الاحتفاظ بأسلوبه السهل الممتنع، فرواياته مليئة بالأفكار غير التقليدية التى تُجبرك على التأمل والتفكر، ولهذا تشعرك بالمتعة وهذا الإحساس الملائكى عند القراءة. الخمايسى مِثل فنان نحت تشكيلى ماهر! ما إن تبدأ فى القراءة له حتى يبدأ رويدا رويدا فى هدم كثير من الحوائط والحواجز التى نبنيها على مرّ السنين فى وجدانك وعقلك الداخلى (سواء أكان عن طريق الجهل أو عن طريق العادات والتقاليد)! وفجأة تجد هذه المساحة الشاسعة التى لم تعرف مسبقا بوجودها، والأهم من هذا أن الخمايسى لا يتركك بعد هذا تعيش بمفردك فى هذه الساحة، لكنه يخلّد شخصيات رواياته بشكل مذهل فى عقلك، حتى يصبحوا مثل قرنائك، ولنا فى عم «حجيزى بن شديد الواعرى» فى منافى الرب والعبد الصالح «صُنع الله» فى «انحراف حاد» خير أدلة. سنركِّز هنا على عم حجيزى، فهو ليس بالشخص الذى تستطيع أن تصفه، وهذا ليس لأنه مختلف فقط! ولكن عم حجيزى هو الشخص الذى يعيش بداخل الكثير منا، ولكننا لا نريد أن نحييه، بل على العكس نحاول إماتته ونسيانه طوال الوقت، وما أصعب أن توصف الشىء الذى تحاول الهروب منه بسبب خوفك! عم حجيزى لا يفكر فى الموت كونه نهاية، بل يعتبره قضية حياته التى يعيش من أجلها، ليس بسبب الخوف من الموت ولكنه يخشى من فكرة الدفن وحيدا تحت التراب، فهو يخشى من فكرة الوحدة والعزلة، ولهذا فكل قضية حياته هو البحث عن طريقة للدفن وسط الأسرة بدلًا من الدفن تحت التراب وحيدا. ويجعلنا عم حجيزى والكاتب نتساءل: هل صحيح أن الموت هو ألدّ أعداء الحياة؟ ويفاجئنا عم حجيزى ويقول لنا «لن يعيش أبدا من لم يجعل الموت نصب عينيه»! ويخبر الراهب فى الرواية عم حجيزى أننا نصبح أقرب إلى الموت عندما نتوقف عن الاندهاش! فكلما نكبر ونهرم وتثقلنا الحياة خبرة، نصبح أقل عرضة للاندهاش، ولهذا نصبح أقرب إلى الموت! والأجمل أنه عند قرب الموت يوصى عم حجيزى غلامه بالدفن، وينصح غلامه بكيفية الهروب من منافى الرب (أو الحزن). لم أفاجأ عندما صرّح الخمايسى فى الفضائيات (مع الأستاذ محمود سعد) عن فرحته الشديدة بنجاح الرواية التى طالما حُلم بتخليد ذكراه من خلال عم حجيزى الذى يعتبره هو نفسه! وهذا هو الفنان الحقيقى الذى يبحث عن الخلود أو كما قال جمال الغيطانى «جوهر الفنان أنه رسالة حافظة، دالة على الوجود، مقاومة للعدم». لقد نجحت حقا ليس فى تخليد نفسك فقط، ولكن فى تخليد جزء مننا لأننا كلنا عم حجيزى!