إذا كان الشعر ديوان العرب فالاستبداد هو الرواية والقصة والمسرحية فكل شىء ينطق بالاستبداد عند العرب حتى النهر إذا غضب والصحراء إذا عصفت رياحها وإنما العاجز من لا يستبد. والعرب على ما برعوا فى الفنون والعلوم فإن براعتهم فى الاستبداد لا تُبارَى، قامة سامقة لا يصل إلى عنفوانها وتجددها أحد إنهم يتنفسون ويأكلون ويشربون استبدادًا لا حياة لأحد دونه، من الرئيس إلى الخفير، وعسكرى الدرك والموظف والتاجر كلهم يقتنصون الذل والقهر من عينيك ومن قلبك وكرامتك، اقتناصًا يثير العجب بمجرد الاقتراب منهم. إذا اختلفت مع الشيخ أو القسيس أو الموظف الكبير أو الشرطى أو الحاكم، فالنتيجة واحدة، التكفير والسجن والتشريد. الجميع ينطقون من معين واحد، وإن اختلفت ملابسهم أو كراسيهم، فالحكومة المستبدة تكون مستبدة فى كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطى إلى الفراش إلى كنّاس الشوارع. كتاب الاستبداد العربى أهم صفحاته القتل، وكل حروفه من دماء البشر، وفصوله من رقابهم، ومقدمته بيد الحاكم المستبد، وآخر صفحاته يحررها الجلاد وتطوى كل صفحة منه بالسيف وطلقات الرصاص، والناس بين دفتى الكتاب حروف مأسورة بين قبضتى الطاغية والجلاد لا يخرج حرف عن سطره، ولا عنوانٌ عن بابه حروف مصفوفة تكتب أناشيد الرياء وتدبج قصائد النفاق، من يتفوق يصبح عنوانا يستبد بآلاف الحروف وملايينها، ومن يغضب أو يرفض أو يعصى نرمِه للجلاد فى قعر الكتاب لا علم إلا ما يدرس فى هذا الكتاب، كتاب الحاكم المنزل من زبانيته يحكى عن عظمته وعبقريته وحكمته وقيادته الرشيدة الملهمة للأمة والدنيا بأسرها. الحاكم الذى لا يخطئ أبدًا ويظل يعلو ويعلو، وشعبه ينحدر ينحدر حتى يروح فى دنيا النسيان وقد يتذكرهم الحاكم المستبد فجأة فيزور مستشفياتهم ليطمئن على حجم المرضى، أو يزور مدارسهم ليعرف مقدار الجهل ويزور مصانعهم ليعرف مقدار التخلف، وساعتها ينمام مطمئنًا، فكلما كان الشعب مريضًا جاهلا متخلفًا كلما كان المستبد أكثر راحةً وكلما طال بقاؤه على كرسى الحكم. وعروش الطغاة لا ترتفع إلا على رؤوس البشر، ولا حياة لتَاجِهِ إلا بما أخذ من حياة الناس. ويلخص ابن خلدون حال العرب بأنهم أمة جُبلت على التوحش وعدم الانقياد للسياسة، فهم يهدمون البيوت ليبنوا الأثافى والخشب ليعمدوا خيامهم ورزقهم فى ظلال رماحهم متنافسين فى الرياسة، قَلَّ أن يسلِّم أحد منهم الأمر إلى غيره، ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا فى الأقل، أو على كُرهٍ، ولا يجمعهم الملك إلا بصبغة دينية وقد بعد عهدهم بالسياسة، فرجعوا إلى أصلهم من البداوة والتوحش والعصبية والغلظة. أما ميكيافللى المعلم الأول للمستبدين فيعطى الدرس لمن أراد البقاء فى السلطة: عليه أن يعرف كيف لا يكون فاضلًا، وأن لا يبالى بما تجلبه عليه الرذائل من خزى وعار، والتى بدونها يتعذر عليه الاحتفاظ بدولته، وإذا كان عليه أن يجد سبيلًا لإعدام شخص فيجب أن يختار تبريرًا مناسبًا وسببًا عامًّا (كالكفر أو العلمانية)، فى ما يعتقد هيجل أن الشرقيين ومنهم العرب بالتأكيد لم يتوصلوا إلى معرفة أن الروح أو الإنسان، بما هو إنسان، حر، ونظرًا إلى أنهم لم يعرفوا ذلك فإنهم لم يكونوا أحرارًا، وكل ما عرفوه أن شخصًا معينًا حرًّا يقصد الحاكم الطاغية، وأن أبناء الشرق يتسابقون فى تدبيج القصائد للطاغية، لتتغنى بأياديه البيضاء على الناس، حتى لم يعد الحاكم يجد حرجًا فى تسخير الصحافة والتليفزيون وجميع وسائل الإعلام للحديث عن أمجاده وبطولاته. هذه الصورة الكئيبة عن الشرق قديمة، حيث أرسل أرسطو رسالة إلى تلميذه الإسكندر الأكبر بعد فتوحاته فى الشرق ينصحه فيها بأنْ يعامل اليونانيين كقائد، وأن يعامل الشرقيين معاملةَ السيد، لأنهم بطبيعتهم عبيد ولا يتذمرون من الطاغية. ربما لذلك قال الإمام محمد عبده: أعوذ بالله من السياسة، من لفظها ومعناها وحروفها، ومن كل أرض تُذكر فيها ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل فيها، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس.