عندما بدأ الفيلسوف الفرنسى رينيه ديكارت (René Descartes (1650-1596 يشك فى كل شىء، لم يتبق له إلا أنه يؤمن بأن ما لا شك فيه هو أنه يفكر! وهداه ذلك إلى أن يقرر أنه ما دام يفكر إذن فهو موجود! ومن ذلك بدأ فى بناء صرح فلسفى يعتمد على يقينه من أنه يفكر. وكانت محاولة ديكارت الفلسفية رد فعل لهيمنة الأفكار الغيبية والاعتقادات المبنية على الإيمان المطلق، الذى لا يعتمد على مشاهدات أو براهين أو أدلة سادت فى أوروبا حينذاك، واعتمدت فى شيوعها على سلطة الكنيسة وهيمنتها على أمور الفكر، مع تنافى ذلك مع روح المسيحية السمحة. وكانت مقولة ديكارت «أنا أفكر إذن أنا موجود» شرارة البدء فى تحرير الفكر من الأغلال التى كبلت العقل فى العصور الوسطى. وكان للتفكير الحر أكبر الأثر فى وضع اللبنات الأساسية للمنهج العلمى الذى لا يعتمد على التسليم المطلق بمعطيات الحس أو الاستنتاجات العقلية والاستنباطات النظرية، بل ويتعدى ذلك إلى الاعتقاد بأن معطيات الحس والتفكير خاضعة للخطأ والزلل، مما يستدعى استخدام ضوابط للتقليل من الأخطاء أو تفاديها. ولما كانت هذه الضوابط تعتمد فى المقام الأول على شهادة آخرين، من غير القائم أو القائمين بالمشاهدة أو الاستنتاج العقلى، بصحة المشاهدات أو سلامة المنطق العقلى. ولإدراك العلماء أن شهادة أى جماعة قد تخضع أيضًا للخطأ، نتيجة اشتراكهم فى وجهه نظر معينة أو توجه خاص، فتح العلماء الباب أمام أى جماعة أخرى لامتحان صحة المشاهدات أو سلامة الاستنباطات، وبذلك أرسى العلم قاعدة «الإجماع» (consensus) كأساس لامتحان ما قد يشاهده البعض والتأكد من سلامة الاستنتاجات النظرية. ولم يُقتصَر الإجماع على جماعة بعينها لتفادى التحيز أو الزيغ، نتيجة للمعتقدات العرقية أو الطبقية أو العقائدية. كما أن الإجماع لا يؤدى إلى يقين مطلق، لأنه يرتبط بتكوين وخبرات الجماعة والظروف التاريخية، ولا يمكن أن يشمل كل البشر أو حتى كل من أصاب قسطًا من العلم. ولا يصح لجماعةٍ ما أن تدعى أو تُلزم جماعة أخرى بصحة معارفها العلمية. أما ما يقع خارج نطاق العلم من المسلمات أو البدهيات التى تعتبر غير قابلة للشك أو التمحيص، فإن الاعتقاد بها يعتمد على قبولها من منظور تواترها وقبولها والتسليم بها فى ما سلف. وعادة ما تكتسب هذه المسلمات، مع استحالة أو صعوبة التيقن من صحتها أحيانا، مكانة الثوابت والحقائق المطلقة، وعادة ما تعززها معتقدات أو ممارسات قدسية إما فى إطار موروثات شعبية، وإما هيمنة مؤسسات سلطوية، كتعزيز رجالات الدين المسيحى فى العصور الوسطى لفكرة ثبات الأرض ودوران الشمس حولها، أو فكرة طبقات الناس ودرجاتهم ومنع الاختلاط بينهم، أو حتى لمس البعض منهم كما فى النظام الاجتماعى الذى عززته الهندوسية. وكلما تقادم العهد على أفكار مُعززة تُمثل رأس المال الفكرى لمؤسسة عقائدية سيادية تكتسب شرعيتها من هذه الأفكار يزداد ترسيخها كمواريث فكرية مقدسة، تذود عنها تلك المؤسسة وتحارب بشراسة كل من يتعرض لها، بل ويقصرون حق التفكير فى هذه الأمور على أنفسهم، مما يخرج الأمر من إطار المعارف البشرية العمومية. وتعرف هذه الأفكار التى لا يجوز أن تخضع للشك بأنها «دوجماتيقية» من (dogma)، ويصعب لتقديس هذه الأفكار وشيوع الاعتقاد بها ومراجعتها أو النظر فيها باستخدام المنهج العلمى. وعلى عكس ذلك لا يعتمد العلم على سُلطة فوقية تفرض رؤيتها ومعارفها وتحرم معارضتها. لا يعرف العلم المعرفة اليقينية التى لا يدخلها الباطل أو «تدنسها» شبهة، لأن المعرفة العلمية معرضة بالضرورة للنقص الكامن (Inherent) فى حواس وعقل أى إنسان، وقصوره عن إدراك ما هو أزلى أو خارج منظومة المعرفة الحسية والتعقل الإنسانى المرتبطين بالضرورة بالمكان والزمان والتاريخ والثقافة، وكل ما هو من نواقص البشر بحكم كونهم بشرًا لا آلهة. ولكن هذه المعرفة هى الأكثر يقينًا من أى معرفة أخرى، ومحك ذلك أنها المعرفة التى يعتمد عليها البشر فى أمورهم الحياتية. لا يوجد يقين علمى مطلق، وإنما يقين وقتى يعتمد على المعارف السابقة وما لا نستطيع أن نجد أنسب منه، لتفسير ما ندركه من ظواهر. والمعارف العلمية تخضع لدرجات متفاوتة من الاحتمال. لكن ذلك لا يرضى احتياجنا إلى يقين مطلق لتفادى الإحساس بالقلق. وهنا يبدو أن تكوين العقل البشرى تضمن من ناحية ممارسة الحياة بقدر من اليقين «الوهمى» للإحساس بالطمأنينة، كما أنه تضمن، فى نفس الوقت، القدرة على تحوير أو حتى نقض مفاهيم مسبقة كضرورة للبقاء تحت ظروف متغيرة. هذا التناقض يبدو محيرًا إلا إذا كانت هناك مَلَكَة عقلية تستخدم الاعتقاد اليقينى فى محله عندما يكون مطلوبًا أو مناسبًا، وتسمح فى نفس الوقت فى ظروف أخرى بالتشكك فى ما هو متعارف عليه. ولكن يبدو أن عوامل أخرى تتدخل أحيانًا لتعطل هذه الملكة بما يترتب على ذلك من آثار ضارة لهذا الخلل المرضى.