هل كان الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، يؤمن بأن النجاح يساوى فقط عبد الوهاب؟! نعم، ظلّ ممسكًا بالضوء حتى وصل إلى التسعين من عمره، لكنه لم يستطع أن يحتكر لنفسه كل الضوء. عندما نتناول شخصية محورية فى زمانها مثل عبد الوهاب الذى مرّت ذكراه ال24، أمس، من الممكن أن تُطل عليه بالعديد من الزوايا. هذه المرة أراه بعيون ثلاثة من الملحنين، الموجى والطويل وبليغ، شكَّلوا الجيل التالى الذى خرج من معطف الأستاذ، وفى نفس الوقت تمرَّد على الأستاذ. الموجى كان أكثر الثلاثة اعترافًا بالأستاذ، فهو مَثَله الأعلى، تمنَّى أن يصبح عبد الوهاب، ولهذا تقدَّم إلى الإذاعة كمطرب، إلا أن لجنة الاختيار رفضته بالإجماع مطربًا ومنحته الموافقة بالإجماع مُلحنًا، الموجى كان يناله بين الحين والآخر ضربات وهابية، منها أنه قد يجد بعض ظلال من ألحانه منسوبًا إلى الأستاذ، الموجى كان يغضب فى حضرة الأستاذ ثم يلتزم الصمت إعلاميًّا، الطويل على النقيض، يعلو صوته إعلاميًّا لو لمح شيئًا من موسيقاه استحوذ عليه الأستاذ، ولهذا كان كثيرًا ما يحدث بينهما جفاء، ورغم ذلك أتذكَّر أننى سألته لماذا لم يلحن «إنت عمرى» بعد أن رشَّحته أم كلثوم نكاية فى عبد الوهاب الذى كان قد تقاعس عن استكمال اللحن؟ فقال لى: كانت الجماهير تنتظر لقاء العملاقَين، ولم أشأ أن أفسد هذه اللحظة، سألته عن رأيه فى «إنت عمرى»، أجابنى: من أروع أغانينا العربية. مع بليغ كان الأمر شديد الالتباس إنسانيًّا وفنيًّا، حال عبد الوهاب دون زواج ابنته من بليغ، أما فنيًّا فلقد قال إن بليغ «رخّص الغناء»، كان يرى أن بليغ هو أكثر موسيقار يأتى إليه الإلهام من السماء، ولكنه لا يجتهد كثيرًا فى التعايش مع الجملة الموسيقية، فيقدّمها قبل أن تختمر فى أعماقه إبداعيًّا، وكان عبد الوهاب يستخدم تعبير «بعبلها»، واصفًا الجُّمل الموسيقية لبليغ. عبد الوهاب كان يعلم أنه حتى يواصل البقاء على القمة عليه أن يهضم مفردات الجيل الجديد، ومن هنا مثلًا من الممكن أن تجد تفسيرًا لكلمة قالها كمال الطويل فى تحليله لموسيقى محمد عبد الوهاب، فهو يصفه بالنشافة يأخذ مما يقدمه العصر، كل ملحنى الزمن الذى عايشه تجد بأسلوب غير مباشر أن عبد الوهاب أخذ منهم لمحة ما، لم يكن عبد الوهاب ابن الزمن الذى سبقه فقط، لكنه ابن الزمن الذى يعيشه، يتابع تلاميذه بنفس القدر من الاهتمام الذى هضم به إنجاز كل مَن سبقوه، وعلى رأسهم سيد درويش. كان عبد الوهاب يرى أن الغزارة الموسيقية لبليغ حمدى سلاح ذو حدَّين، وكان معروفًا أن بليغ هو أكثر ملحن عرفه العالم العربى ويمتلك كل هذه الخصوبة ولا يلاحقه فى الغزارة سوى الموجى، بليغ يحظى دائمًا بالمرتبة الأولى فى تحقيق أكبر أداء علنى، وعلى مدى تجاوز 30 عامًا، فإن ترتيب بليغ حمدى يأتى فى المقدمة. ما الذى يعنيه هذا سوى أن موسيقى بليغ لا تزال تنبض بالحياة.. عبد الوهاب يأتى فى المركز الثانى، يجب ملاحظة أن ما قدَّمه بليغ حمدى يتجاوز فى العدد خمسة أضعاف -على أقل تقدير- ما قدّمه عبد الوهاب، رغم أن عبد الوهاب عاش حتى تجاوز التسعين بينما بليغ غادرنا فى الستين من عمره! عبد الوهاب شكَّل بالنسبة إلى كل الأجيال التى جاءت بعده علاقة تحمل تقديرًا وفى نفس قدر لا ينكر من التوجس.. مثلًا كان محمد الموجى وكمال الطويل وعبد الحليم حافظ قد تعاهدوا فى بداية المشوار أن لا يجعلوا عبد الوهاب يفرق بينهم، إلا أن عبد الوهاب منذ الخمسينيات استطاع أن يخترق هذا الحصار وبذكاء يرتبط مع عبد الحليم بمشروع فنى اقتصادى، وهو شركة «صوت الفن». نعم، عبد الوهاب كان يشعر بالغيرة من كل جديد موهوب يتابعه يتأمله يهضمه، كان يحيل الغيرة إلى طاقة إبداعية إيجابية، تمنحه البقاء فى تاريخنا الموسيقى معتليًا القمة وحتى الآن!