ارتكب النقاد الواقعيون اليساريون فعلًا نقديًّا تاريخيًّا شديد القسوة، وراحوا يعلون من شأن كتّاب يرضون أذواقهم وأفكارهم، وربما برامجهم، وفى المقابل أهملوا كل مَن لا يسير وفق النظرية الواقعية الاشتراكية أو النقدية، أو السحرية، وخلافه، وأنا لست أقول بأن الأدباء الواقعيين قليلو القيمة، أو أنهم ليسوا مؤثرين، بل أنا شخصيًّا منحاز إلى هذه الكتابة التى جسّدها نجيب محفوظ ويوسف إدريس وسليمان فياض ومحمد صدقى وعبد الله الطوخى، من الأجيال القديمة، مرورًا بجيل الستينيات، ومنهم الأدباء إبراهيم أصلان ويوسف القعيد ومحمد البساطى، وصولًا إلى محمد المخزنجى ويوسف أبو رية وإبراهيم فهمى ومنتصر القفاش، وغيرهم. لكننى لست أسعى لتسييد انحيازى على الساحة الأدبية، والتركيز بقوة على نماذج من الأدب والأدباء، وتجنيب واستبعاد نماذج من الأدب والأدباء الآخرين، إما بالتجاهل الكبير، أو بالهجوم الشديد، أو بالتسخيف والتهييف الذى يقتل هذا النوع من الأدب، ويعطل مسيرة هؤلاء الأدباء. والتاريخ يتكدَّس بالفعل بأدباء حقيقيين كثيرين، استبعدتهم أيدى وأقلام وإرادات مسيطرة ومهيمنة وحاكمة ومتسلطة، وربما يستعاد اكتشافهم فى ما بعد بطرق ما، ولكن بعد أن يكون الزمن مرّ وسحقهم وسحق تأثيرهم فى أزمنتهم، وكذلك فالتاريخ يزدحم بأسماء لأدباء طفت أسماؤهم وكتاباتهم على السطح، لفترة ما من الزمن، ولكنهم سقطوا فى ما بعد، بفعل عملية الفرز التاريخى العادلة. وفى هذا الإطار الاستبعادى والاستنكارى والتسخيفى والذى يتجاهل بعض الأدباء، تم إسقاط أسماء فى السرد، مثل محمود كامل المحامى، ومحمود البدوى، وحافظ نجيب، وإحسان عبد القدوس، وعبد الله الطوخى، وفاروق منيب، ومحمد سالم، وسعد مكاوى، ومحمود حنفى، وفؤاد القصاص، ورمسيس لبيب، وعبد المنعم سليم الذى كتب له الروائى الطيب صالح تقديمًا نقديًّا واسعًا لقراءة أعماله الأدبية، ونادرًا ما كان يفعل الطيب ذلك، إلا تحت ضغوط فنية حقيقية. كما تم استبعاد أسماء شعرية، مثل جيلى عبد الرحمن وكامل أمين وكامل أيوب وحسن فتح الباب وزكى عمر ومحمد يوسف وسلامة العباسى وعبد العليم القبانى وفتحى سعيد، وغيرهم. وليست آلة الزمن وحدها هى التى تعمل منفردة دون دفع من قوى نقدية وثقافية فاعلة، ويروّج البعض لمقولة إن كل هؤلاء لا يمكن محوهم أو نفيهم أو استبعادهم، إلا إذا كانوا جديرين بهذا الاستبعاد، وهذه مقولة مغلوطة، بدليل أن هناك كاتبات مصريات، كان لهن حضور ثقافى وإبداعى لافت وغير منكور، بل لهن تأثيرات جمّة على الأجيال الحديثة من كاتبات معاصرات، ولكن الآلة النقدية القوية والمؤدلجة استبعدتهن بضراوة وقسوة، ومنهن مَن كتبن عشرات الكتب، مثل جميلة العلايلى، وجاذبية صدقى، وصوفى عبد الله «أم هانئ»، وجليلة رضا، وفوزية مهران، وغيرهن، وتم تصعيد كاتبات أخريات وفق تصورات أيديولوجية سياسية، وما زال هذا يحدث على الساحة الأدبية بتكرار يكاد يكون مملًّا. ومن بين هؤلاء يأتى الكاتب محمد عبد الحليم عبد الله، والذى مرّت ذكرى ميلاده المئوية عام 2013 دون أدنى انتباه من المؤسسة الرسمية، ودون تذكير -حتى- من المؤسسات الثقافية المستقلة، وهذا جحود وتجاهل لا يليقان بكاتب كان موجودًا وفاعلًا فى الحياة الأدبية بشكل كبير. بدأ نشر أعماله مبكرًا، أى عام 1933، وراح يمدّ الحياة الأدبية بقصصه ورواياته، وله كتابات مشهورة، مثل «بعد الغروب، ولقيطة، وللزمن بقية، والنافذة الغربية، وشمس الخريف، وشجرة اللبلاب»، وغيرها من روايات ومجموعات قصص قصيرة، وتحوّل بعض رواياته إلى أفلام سينمائية، أو مسلسلات إذاعية، وكانت رواياته ملهمة لكثير من المخرجين، لأنها كانت تتناول قضايا حيّة من الواقع، وكانت تتفاعل بشكل واسع مع ذائقة القارئ السائدة. وفى 27 أبريل عام 1953، نشرت مجلة «روزاليوسف» قصة عنوانها «بقية الليل»، وفى هذه القصة يحكى لنا الراوى عن قصة الطالب الفقير الذى أتى من الريف، لكى يتعلّم فى القاهرة، وشارك اثنين من زملائه حجرة سكنية فى حى مصر القديمة، وكان والده، كما يصفه فى القصة، يقف فى نهاية الفئة العليا فى الطبقة الاجتماعية الدنيا من ناحية، ومن ناحية أخرى يقف على أعتاب الطبقة الاجتماعية المتوسطة، ولذلك كانت الأحلام التطلعية تجعله واحدًا من الحالمين الكبار، والذين يجلبون على أنفسهم سخرية أبناء القرية جميعًا. وكان الطلبة المحبوسون الثلاثة فى غرفة واحدة، وفى سرير واحد، تتنازعهم الأهواء والمشكلات، فكان صاحبنا يهرب منهما ليذهب إلى زميل آخر، يسكن فى ضاحية حلوان، وكان هذا الأخير ينتمى إلى طبقة أرقى نسبيًّا، فكان يتوفَّر له المكان اللائق، والطعام الجيد، والراحة اللطيفة، وفى أحد الأيام ضاق المكان بهما، عندما جاء والد الطالب الميسور مع العائلة لتفقّد أحوال ابنه، ولهذا ترك صاحبنا المكان إلى مسكنه المتواضع، دون أن يكون معه أى نقود، وعندما سار فى الشارع وحده، التقى بإحدى فتيات الليل، ودار بينهما حوار، أفضى به للذهاب معها إلى المنزل، وبدلًا من أن يحدث الفعل الذى تحتمه حالة شاب وشابة وحيدين منفردين، وبدلًا من ظهور الشيطان الثالث لهما، ظهر ملاك لتلطيف اللقاء وتنظيفه من أى سلوك شائن. وتعتبر هذه القصة كما اختصرناها رومانسية جدًّا، وغير مطابقة لمجريات الواقع، وربما تنتمى إلى عالم الأحلام المرجوة، ولهذا قرر النقاد حبسه فى غرفة الرومانسية الأبدية، وعقابه بالتجاهل والاستبعاد اللذين وجِه بهما بعد رحيله بطريقة مؤسفة، تحدث عنها يوسف القعيد أكثر من مرة، وهو رحيل رومانسى بوضوح، إذ يقول القعيد إن الرجل عندما كان عائدًا فى أحد الأيام إلى منزله، وكان يركب الميكروباص، ونشبت معركة بينه وبين السائق، أفضت بأن يصفعه السائق على وجهه، بعدها مرض عبد الله، ومات دون وداع.