الأدب والحياة، الأدب والمجتمع، الأدب والدين، الأدب والسياسة، الأدب والحرب، الأدب والفن، كلها عناوين تحتاج إلى مجلدات وتحليلات وتأويلات ليست بسيطة، ودوما كان الأدب يعالج شتى هذه المجالات، وما «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، و«دعاء الكروان» لطه حسين، و«الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوى، و«بين القصرين» لنجيب محفوظ، و«الحرام» ليوسف إدريس، و«الباب المفتوح» للطيفة الزيات، و«قسمة الغرماء» ليوسف القعيد، و«العربة الذهبية لا تصعد إلى السماء»، و«سقوط الصمت» لعمار على حسن، وغيرها من روايات، إلا تنويعات متعددة على أوتار هذه الموضوعات. وربما تكون السياسة قاسما مشتركا فى كل هذه الروايات، فالسياسة هى القوة الهائلة التى تعمل على مغنطة الأدب والأدباء، وتوجيهه وتوجيههم بشكل مباشر أو غير مباشر نحو أهداف معينة وربما مختلفة أو متناقضة أو متباعدة. والمتأمل لهرولة كثير من الأدباء بعد ثورة 25 يناير نحو الحدث بكليته سيدرك المدى الجبّار الذى تفعله الأحداث السياسية فى الأدب والأدباء، وهناك مَن افتعلوا الكتابة عن الحدث، ليلحقوا بقطار الثورة وليحجزوا مكانا ما فى التاريخ، وهناك من كانوا صادقين وعفويين فى انجرافاتهم نحو الحدث، فعبروا عن رغبات كامنة ودفينة عن تهويمات كانت غامضة، ولكنها اتضحت بعد نهوض الحدث الضخم، فأنهض معه هذه المشاعر التى كانت هائمة. وإذا كانت السياسة سؤالًا أبديًّا فى النصوص الأدبية، وبالتالى المجتمع، والحب، والحياة، فالدين كذلك كان سؤالا مشرعا ومشروعا كذلك فى الروايات والقصص والغناء والمسرحيات، ولو ذهب أحد النقاد المجتهدين للبحث فى تاريخ علاقة الأدب بالدين، سيكتشف مساحات واسعة فى هذا المجال، ربما تعود به إلى عهود سحيقة من الزمان، وقد فعل ذلك الدكتور لويس عوض فى وقت مبكر -عام 1954- وأجرى دراسة عنوانها «المسرح المصرى»، وربط بين نشأة المسرح المصرى فى العهد الفرعونى، وبين الدين، لكنه لم ينشر الكتاب مرة أخرى، وأقصاه تماما عن قائمة أعماله، ولا أعرف لماذا، إلا لو كان قد تراجع عن أفكاره. ويبدو أن سؤال الدين كان مطروحا بقوة فى تلك الفترة الخمسينية، أى بعد قيام ثورة يوليو بعامين فقط، ففى 26 أبريل عام 1954 كتب الأديب والصحفى إحسان عبد القدوس فى مجلة «روزاليوسف» قصة تحت عنوان «الله محبة»، وأعتقد أنها القصة الأولى التى راحت تعالج الحب والاختلاف الدينى، ولم أعرف أن أحدا من الأدباء قد عالج هذا الأمر وعلى هذا النحو قبل إحسان، وربما عُولج الأمر بأشكال مختلفة فى ما بعدُ عند أدباء كثيرين على مدى العقود الزمنية التى تلت نشر هذه القصة، وعلى سبيل المثال روايات إدوار الخراط ونبيل جورجى نعوم وحسين عبد العليم ويوسف القعيد وغبريال زكى غبريال، وغيرهم. يقدم إحسان عبد القدوس قصته بكلمة يقول فيها: «ليس لى فضل فى هذه القصة إلا فضل كتابتها، فقد سمعتها من فتاة قبطية أحبت مسلما، وانتهى حبها إلى عذاب، فدارت تتعزى بجمع قصص المعذبات مثلها، القبطيات والمسلمات اللاتى أحببن مسلمين، والمسلمات اللاتى أحببن أقباطا، قصة كتبتها لأنها مشكلة تعيش فى أكثر من بيت، ويروح ضحيتها أكثر من قلب، مشكلة لن يحلها تجاهلها». والقصة تحكى عن فتاة مسلمة أحبت شابا مسيحيا، وأصبحا لا يستطيعان الفراق، فلم يكن أمامهما سوى الزواج، وهو المسلك الحتمى والطبيعى لأى قلبين متحابين، وفى ظل هذا الحب كانت كل الأشياء تتراجع، حتى المقدسات التى توارثها كل منهما من خلال بيئتَيْهما، ولكن الفتى كان أكثر وعيًّا من الفتاة، فأدرك المشكلة العويصة التى تحيط بهما، فسألها بعفوية عن قدرتها على أن تتخلى عن دينها، وبعفوية غير مدركة أجابت ب«نعم»، لكنها شعرت بمشاعر غامضة فى ما بعد، ولكنه أخرج عملة معدنية من جيبه، وأشار إليها أن تختار أحد وجوه العملة، وسيقذف العملة، والوجه الذى سيظهر على السطح سيُغيِّر صاحبه دينه، وجاءت النتيجة لتُغيِّر هى دينها، وقرَّرا بالفعل الذهاب إلى القسيس، وعندما وقفت أمام القسيس، أدركت إسلامها بقوة، وتذكَّرت كل الطقوس التى لم تكن منتبهة إليها، واستيقظت فيها مشاعر غامضة وكامنة وكانت مستبعدة، هذه المشاعر نهضت رغما عنها، فهى لم تكن متديّنة بالمعنى الدقيق، ولكنها اكتشفت أنها مسلمة حتى النخاع بحكم البيئة الاجتماعية واختيار الله لذلك. ولكن القسيس رفض القيام بعملية تغيير الديانة، لأن الفتاة كانت قاصرا بحكم صغر عمرها، ولم يكن هناك حل سوى أن يذهب الفتى لتغيير ديانته، وراح ليقابل شقيق الفتاة، ودار بينهما حوار صعب، إذ كان السؤال الأهم لدى شقيق الفتاة، يدور حول «هل الفتى اعتنق الدين الإسلامى لاقتناع به، أم لأنه حل للمشكلة العويصة التى بينه وبين الفتاة؟!»، وكانت إجابة الفتى بأنه يحبّ الله عموما، وأنه لم يكن متدينا بالمعنى الدقيق، ولذلك الأمر بالنسبة إليه ليس عويصًا إلى هذه الدرجة. هنا يرفض شقيق الفتاة الزواج، وتستمر القصة فى شرح أحوال الأطراف الثلاثة «الفتى والفتاة وشقيقها»، وينتهى الأمر بأن يتفق الفتى والفتاة على الذهاب إلى الله الذى وفَّق قلبَيْهما، حيث إن السماء ستكلل تجربتهما بزواج سماوى، واستطاعت الفتاة أن تنفِّذ وعدها، أما الفتى فحاول أن ينفّذ وعده لكنه فشل، وأين كان الأخ الذى كان سببا فى ذلك؟ يجيب السارد بأنه كان يُصلِّى. ويسترسل إحسان فى طرح بضعة أسئلة اجتماعية وفلسفية ودينية، أظنها ما زالت مطروحة حتى الآن.