أوروبا.. تلك القارة العجوز الشقراء التي تصدح إليها أبصار المهاجرين وتلهث وراءها ألسنتهم.. غير مبالين بالأمواج العاتية ولا ما ينتظرهم من مخاطر وأهوال.. يصعدون إلى مراكب الهجرة غير الشرعية.. في حلم الهروب من عالمهم الثالث البائس نحو إيطاليا وفرنسا واليونان.. نحو النور والثراء كما يخيل إليهم في عقلهم الباطن.. متكدسون فوق بعضهم البعض ككتل لحم لا تساوي الدولارات التي دفعوها.. في مركب بالً يحيط به الموت من كل جانب.. تكون مشارف النهاية ساعة الغرق.. انتهت الرحلة قبل أن تبدأ.. أرقام قياسية في عدد الغرقى هذا العام حذرت منظمة الهجرة الدولية من أكبر الكوارث الإنسانية، لاسيما أن عدد الغرقى من المهاجرين غير الشرعيين المتجهين إلى أوروبا خلال هذا العام قد يصل إلى رقم قياسي، فغرق نحو 800 مهاجر قبل أيام قليلة وعثور البحرية الإيطالية على جثث أخرى رفع عدد الضحايا إلى نحو 1750 مهاجرا وفق المنظمة التي أشارت إلى أن ذلك يعادل 30 مرة عدد الذين لقوا مصرعهم في البحر خلال الفترة نفسها من العام الماضي. ففي عام 2014 وحده غرق 3419 شخصا، في ارتفاع مضطرد لضحايا الهجرة غير الشرعية خلال السنوات الأخيرة لاسيما بعد حرب الناتو على ليبيا وتفكك الدولة فيها ما جعلها ممرا سهلا للاجئين الأفارقة والعرب إلى أوروبا. دفع هذا الأمر بالمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان ومقره جنيف إلى التحذير مما وصفه بالتقاعس المعيب لدول الاتحاد الأوروبي في استقبال اللاجئين بطرق شرعية. مقترحات لا تدخل حيز التنفيذ تعهد وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في اجتماعهم الأخير بلوكسمبورج ببذل مزيد من الجهود لوقف غرق المهاجرين في البحر المتوسط، وتضمنت الحلول التي طرحوها، دعوة بريطانية لملاحقة المهربين في شمال أفريقيا، ومُقتَرحاً إيطالياً - أيّدته النمسا - بإقامة مخيمات في الشرق الأوسط وأفريقيا حيث يستطيع الناس طلب اللجوء في أماكنهم، وآخر فرنسياً بتوسيع نطاق عملية «تريتون» الأوروبية، التي حلّت مكان عملية «ماري نوستروم» الإيطالية العام الفاتت. والى جانب توصيات المفوضية الاوروبية، ومقترحات وزراء الخارجية والداخية الاوروبيون، قال رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي إن بلاده تدرس احتمال القيام «بتدخلات محددة الأهداف» ضد مهربي المهاجرين غير الشرعيين في ليبيا، المسؤولين عن الزيادة الكبيرة في أعداد الذين يعبرون البحر المتوسط، مشيراً إلى أن «الفرضيات التقنية يدرسها تقنيون»، ومن بينهم «فرق من وزارة الدفاع»، من دون إعطاء المزيد من التوضيحات. من جانبه أقرّ رئيس المجلس الاوروبي دونالد توسك بأن «الوضع في المتوسط مأساوي»، لكنه أضاف «لا أتوقع حلولا سريعة للأسباب الرئيسية للهجرة لأنها غير موجودة... ولو كانت كذلك لكنا استخدمناها منذ وقت طويل». وإذا كانت الحلول السريعة التي يتحدث عنها المسؤول الأوروبي، غير موجودة، فإن كثيرين يؤمنون بأنّ الاتحاد الاوروبي يدرك الحلول الكفيلة بتنظيم الهجرة، لكنه لم يبد حتى الآن أي إرادة سياسية للتحرك. وهذه الحلول مطروحة أمام القادة الأوروبيين، منذ غرق مركب قرب جزيرة لامبيدوسا الإيطالية في أكتوبر من العام 2013، في حادثة أسفرت حينها عن مقتل 366 شخصاً. وتقضي هذه الحلول بإنشاء طرق شرعية للهجرة، ومكافحة المهربين في بلد انطلاق المهاجرين، وتزويد وكالة «فرونتكس» لضبط حدود الاتحاد الأوروبي بموارد مالية كافية، وتعديل القوانين الأوروبية المتعلقة بالتعامل مع المهاجرين واللاجئين، ولكن كل هذه المقترحات قوبلت بالرفض حتى الآن. واشنطن بوست: حل أزمة المهاجرين بيد أوروبا الكوارث المتكررة غرق مئات المهاجرين تضع دول الاتحاد الاوروبي بين المطرقة والسندان، حيث علقت صحيفة واشنطن بوست في افتتاحيتها على ما قاله رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي الجمعة الماضي، من أن الطريقة الوحيدة لوقف فيضان المهاجرين إلى أوروبا هي أن تتصالح قبائل ليبيا في ما بينها. وترى الصحيفة أن هناك بعض الحقيقة في ملاحظة رينزي لكنها تصور على نحو أقل مما تقتضيه الحقيقة، وهي التزام إيطاليا ودول أوروبية أخرى بمنع وقوع كارثة إنسانية، وهذا هو ما أصبح واضحا بشكل مأساوي قبل يومين عندما انقلبت سفينة محملة بأكثر من سبعمائة شخص قبالة الساحل الليبي، تم إنقاذ 28 شخصا فقط، مما يعني أن عدد القتلى قد يكون الأعلى في البحر المتوسط منذ الحرب العالمية الثانية. واختمت الصحيفة بأن الاتحاد الأوروبي هو الوحيد الذي يستطيع مساعدة هؤلاء المهاجرين، وذلك باستئناف عملية بحث وإنقاذ واسعة ودراسة توفير السبل القانونية للاجئين الأفارقة، للبحث عن ملجأ في بلدانهم دون الحاجة إلى ركوب قوارب التهريب، كما ينبغي النظر في اتخاذ خطوات أكثر قوة لمكافحة المهربين والمساعدة في استعادة النظام في ليبيا، وأضافت أن ما لا ينبغي أن يكون خيارا هو مواصلة تجاهل الأزمة الإنسانية التي تصب في البحر المتوسط. لماذا الهجرة عبر ليبيا؟ لا تبعد السواحل الليبية أكثر من 300 كلم عن جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، التي تشهد كل عام وصول آلاف المهاجرين غير الشرعيين. ومع ساحل طوله ألف و770 كلم، أصبحت ليبيا نقطة انطلاق المهاجرين غير الشرعيين الذي يحاولون عبور البحر المتوسط في رحلة محفوفة بالمخاطر للوصول إلى أوروبا. ومنذ عهد الراحل معمر القذافي لم يكن الليبيون قادرين على السيطرة على حدودهم البرية التي يعبرها مئات الأشخاص القادمين خصوصا من جنوب الصحراء والحالمين بالهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. وتتشارك ليبيا بحدود برية بطول حوالى خمسة آلاف كيلومتر مع مصر والسودان والنيجر وتشاد والجزائر وتونس. وأكبر تدفق للمهاجرين مصدره شمال النيجر حيث ينقل المهاجرين عبر شبكات من المهربين الذين يأتون بهم إلى منطقتي الكفرة وسبها اللتين تعدان أهم مناطق تجمع المهاجرين في جنوب ليبيا. وفي ظل نظام القذافي، كانت ليبيا تستخدم موضوع الهجرة كوسيلة للضغط على أوروبا، من خلال فتحها أو إغلاقها صمام الخروج وفقا لتقدير حالة العلاقات مع الدول الأوروبية وخصوصا إيطاليا. وكان القذافي يطالب أوروبا بخمسة مليارات يورو سنويا من أجل مراقبة حدودها ومكافحة الهجرة. وبين عامي 2008 و2011، توقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا بعد توقيع معاهدة بين روما وطرابلس، تعهدت بموجبها إيطاليا بتقديم خمسة مليارات دولار إلى ليبيا في مقابل وضع ضوابط أكثر صرامة على موضوع الهجرة. لكن منذ سقوط نظام القذافي ومعه كل مؤسسات الدولة، أصبحت ليبيا مرة أخرى مركزا للمهربين الذين لا يشعرون بتأنيب الضمير في ظل إفلاتهم من العقاب.