هل من المعقول أن أترك «داعش» والحوثيين وبتوع بيت المقدس وحديث القنابل والمشكلات لأتحدّث عن «Rien de rien»؟! هى أغنية الفرنسية الرائعة إديت بياف، تلك الزهرة البرية الرقيقة دقيقة الحجم قصيرة العمر التى عاشت فى النصف الأول من القرن العشرين، ويحلو للبعض أن يصفها بأنها «أم كلثوم فرنسا». هى أغنية الختام فى حياتها القصيرة المأساوية، وتعنى بالعامية المصرية «ولا حاجة فى أى حاجة». تحكى الأغنية على لسان إديت بياف عن نفسها فى قلب زحام الحياة والأحداث، فتقرِّر أن تتوقف لتُلقى نظرة إلى الخلف ثم تختار النسيان، نسيان كل شىء، لا مكان للندم، هكذا تقول بياف فى أغنيتها الجميلة، قررت أن تمحو كل ذكرياتها وأحلامها بجرة قلم وبغير ذرة أسف أو ندم، كل شىء بخيره وشره وأحزانه وأفراحه، كلها على حد سواء، تريد أن تشعل النار فيها جميعا كأنها لم تكن، وكأنها ولدت الآن، للتو واللحظة، وهل هذا ممكن حقا؟ كلام فارغ! حتى أغنية إديت بياف التى تتحدث عن حريق الذكريات هى ذاتها ذكريات! وحتى الحرق ذاته لا تمحى به الذكريات، بل يترك خلفه الرماد، ذكرياتنا التى تأتينا قهرا كوميض يسطع فى عقولنا تماما كمقاطع الفيديو صوتا وصورة ورائحة بغير سيطرة أو حتى توقع. ذلك العام العجيب إياه، عام 2011، آمالنا وآلامنا وأحلامنا التى نركبها كسيارة فائقة السرعة. تجلس خلف مقودها على رأس طريق طويل مغلف بظلام ليل شديد السواد حالك، وأنت وحدك تماما مع قلبك وفقط تطارد النور بعناد رهيب، المنعطفات والمنحدرات والتحويلات المتكررة، وشكل عدَّاد السرعة المضىء فى قلب الظلام هو يقترب من المئتى كيلومتر فى الساعة! منظر أرقام الساعة إلى اليمين لأسفل قليلا وهى لا تكفّ عن التوقف، تلقى عليها نظرة خاطفة فتضغط أسنانك ودوَّاسة البنزين حتى آخرها تريد الوصول. ذكريات رائحة كوب القهوة الورقى الذى يمنحك نفحة إضافية صغيرة من الشجاعة والصبر على الحياة والطريق، رحلتك التى لا يشاركك فيها أحد، أو حتى لا يريد! تتكرر وتتكرر مرارا وتكرارا، تتردد.. تخاف، ثم باسم الحب تقتحم! اقتحام صعب مرير تفقد فيه عينا أو بعض نور العين أو شطرا من روح، لكنك تقتحم غير مبالٍ فى انتظار نور صبح عنيد غبى مكابر. ومن أجل حلم الحرية والحياة تلاعب الموت وتبارز الخطر ودقات قلبك التى تدوى بعنف داخل أذنيك، تحارب نفسك ومخاوفك التى تعيد ترجمة نفسها فى عز النوم فتقض مضجعك كأنك ملسوع بسلك كهرباء عارٍ، مخاوف العمر والرزق وضياع المستقبل وذوبان الأمل وغدر الأيام ورتابة السنوات، ومخاوف على وطنك وأحبابك، ومنهم جميعا! ما أفدح الفارق بين اعتقال وأسر وظلم عندما يأتيك على أرض غريبة وذاك الذى يأتيك على أرض حبيبة، لتتحول الأرض الحبيبة رغم أنف أنفك فى النهاية هى الأخرى إلى أرض غريبة، أرض تستبدل بحنانها الصراخ والأعصاب المنفلتة ودوى القنابل. هو نوع من الحزن شديد العمق مغلف بابتسامة لا يمكن أن يشعر به أحد سواك أنت وقلبك مهما وصفت. فارق كبير بين ذكريات إديت بياف وذكريات فرانك سيناترا فى رائعته «على طريقتى» (My way) التى يعترف فيها مع اقتراب النهاية أنه شعر فى حياته ببعض الندم، وإن كان أقل من أن يذكر، وذكريات الجميل شارل إزنافور فى رائعته «la bohemme» التى يحكى فيها أعز ذكريات شبابه الأول، ثم كيف عاد إلى شارعه القديم ليجد نوافذ البيت وقد أغلقت والزهور وقد ماتت. وذكريات الرقيق إيف مونتان الذى يتحدث عن زمن بعيد كان يغنى فيه مع حبيبته أغنية قديمة، وكيف أن أمواج البحر تمحو آثار أقدام سارت يوما على الشاطئ، تمحوها بهدوء وفى غير ضجة كأنها لم تكن، تلك الأمواج التى داعبت أقداما حافية لتسرق ضحكة قديمة جدا فى ليلة بعيدة كل البعد كانت مقمرة، ولكن إديت بياف تضحك علينا فى كلماتها الأخيرة لتقول إنه مع النهايات تأتى البدايات، كذبت علينا البنت، ولعل هذا هو سر روعة أغنيتها. السطر الأخير والكلمات القليلة الأخيرة التى تعترف فيها بأنها لا تمحو ذكرياتها إلا لتبدأ حياة جديدة وذكريات جديدة، وأنها على وعد جديد ببدايات جديدة، كأن اليأس من الدنيا غير وارد أو حتى مسموح إلا بانتهاء الدنيا نفسها ونفاد أعمارنا فيها، وما قبل ذلك ولو بلحظة واحدة هو ضرورة الاستمرار والتمسك بالأمل وصنع معاهدات الصلح واتفاقيات السلام! البحث عن معنى جديد وأمل جديد تحت نور شمس تشرق على كوكب تستمد مخلوقاته من أشعتها النور والدفء والحياة فى كل صباح حتى إشعار آخر. ويبقى فى عقلى وروحى من أغنية إديت بياف الجميلة إيقاعها الرشيق المبتكر ومتوالياتها الموسيقية الجميلة على أوتار البيانو العتيق تتردد كالصدى بغير كلمات! تمس القلب مسا حنونا مواسيا، وتتردد فى عقلى وروحى، الموسيقى وفقط، وهل يمكن للموسيقى أن تنمحى؟ وهل يمكن لها إلا أن تبقى؟ بل تبقى.. مهما صمتت الكلمات.. وانتهت.. ولم يتبقَّ منها ولا حاجة فى أى حاجة!