منذ حوالى 20 مليون سنة ضوئية، فى أحد تجسداتى الماضية، وفى إحدى الإجازات الفاصلة بين سنتين دراسيتين من سنوات دراستى الثانوية، جلست ذات عصرية فى البلكونة أفكر فى تداعيات العبء المالى الضخم الذى أضيف إلى عاتقى بعد إنضمامى إلى قائمة "المدخنين بشراهة من ورا أهلهم"، أخذت أفكر وأفكر، "المصروف مستحيل يكفى مصاريفى.. خروج وسفر وكتب وسينما وبنات ونثريات.. وكمان سجاير.. يا نهار اسود.. أعمل إيه"؟! قطع تفكيرى صوت جرس الباب، فتحت، كانت مساحة الفراغ من أمامى مغطاة بكومة مرتفvعة من القمصان المطبقة بعناية، يبرز من خلفها وجه "سيد"، صبى المكوجى اللى على الناصية، بينما تتدلى من أسفل الكومة "لكشة" من الشماعات تحمل بدلاً وبنطلونات.. "المكوة يا أستاذ.. 20 جنية". سلمنى سيد القمصان والشماعات، وعندها كانت لمبة الأفكار الشهيرة بتاعة "عبقرينو" قد أضاءت فوق دماغى، و عندها عرفت أن "سيد" لم يكن فى تلك اللحظة مجرد صبى مكوجى عادى، وإنما كان أبعد من ذلك بكثير، كان بمثابة رسالة من السماء تحتوى على إجابة سؤالى.. "أعمل إيه"؟! كنت الوحيد فى المنزل الذى يكوى ملابسه بنفسه، كنت أرى أنها هدومى وانا حر فيها، هدومى أفردها وأكويها، وهكذا، اختمرت الفكرة فى رأسى، وانتهزت فرصة تجمع عائلتى الصغيرة الجميلة فى الصالة فى ساعة مغربية، وأخبرتهم بقرارى.. "بصوا يا جماعة.. من النهارده مافيش هدوم حتطلع من البيت دا لأى مكوجى.. وبما إن جحا أولى بلحم توره.. إذن أنا أولى بالفلوس اللى المكوجى بياخدها"، "يعنى إيه يا خالد"؟! "يعنى من النهارده مافيش مكوجى.. أنا المكوجى"، "طب والبدل.. حتعرف تكويها"؟! هكذا سألنى أبى. "بابا.. فيه ناس فى الهند بتقعد تحت المية من غير ما تتنفس لمدة 45 دقيقة.. يبقى أنا مش حاعرف أكوى بدلة"؟! هكذا أجبته. فى صباح اليوم التالى، إستيقظ من بالمنزل ليجدوا باب غرفتى مغطى بلوحة كبيرة أنفقت الليل كله فى تظبيطها وكتابتها على فرخ ورق دوبليكس أبيض كبير، "مكوجى السعادة لصاحبه خالد كساب يهنئكم ويتمنى لكم مكوة سعيدة.. أنظر الأسعار بالأسفل". أسفل تلك الجملة كانت الأسعار التى بالغت فى جعلها مرتفعة، من منطلق أن زبائنى كلهم أول عن آخر خمسة فقط، أبويا وأمى وإخواتى. تنهمر الملابس من أفراد أسرتى على الغرفة، أنهمك فى العمل، تكثر الملابس، يبدأ العرق فى التساقط من جبهتى، أحاول تقليد المكوجية وتحريك جميع أجزاء جسمى باستمرار، أشعر بدغدغة الإرهاق المحببة إلى جسد يؤمن العقل المسئول عن تحريكه بأنه"الحركة بركة"، وبعد حوالى ثلاث ساعات من العمل المستمر، وبعد تغيير حوالى 5 شرائط لمنير فى الكاسيت، وبعد شرب العديد من أكواب الشاى وفناجين القهوة، وبعد تدخين سيجارتين فى السكرتة فى شباك الأوضة، كنت قد انتهيت من العمل، كانت صفوف القمصان والبنطلونات والفساتين والبدل أمامى شاهدة على نجاح تجربتى، وتأكدت من نجاحى أكثر عندما دخل على أخى "مصطفى" متسربعاً وباحثاً عن قميص وبنطلون ليرتديهما، فأمسكت يده بحسم وأنا أخبره بمنتهى الثبات والإحترافية.. "فلوسك يا برنس". بعد حوالى 3 أشهر، كنت قد بدأت أشعر بالزهق، بدأت الملابس تتراكم على الترابيزة، وبدأ "سيد" صبى المكوجى فى التردد على منزلنا مرة أخرى، وعلمت وقتها أن عملية إمتصاص رحيق التجربة قد انتهت، وأصبح ينبغى علي أخذ ذلك الرحيق والعودة به إلى مسدس الشمع بتاعى شأنى فى ذلك شأن أى نحلة متوحدة ومحترمة. هذا الرحيق المتمثل فى معرفة الفارق بين أن يكسب الإنسان نقوده عن طريق حاجة "بيعرف" يعملها، وأن يكسبها عن طريق حاجة "بيحب" يعملها، وبدون أن أشعر وجدت نفسى أعود للإنهماك مرة أخرى فى القراءة والكتابة.