قادت السنوات الأربع الماضية إلى حالة التباس شديدة ليس فقط بشأن تحديد أسباب الحراك الجماهيرى المتواصل فى مصر حتى قبل 25 يناير 2011 بسنوات عدة، ولكن أيضا بشأن تحديد ما إذا كان هذا الحراك الجماهيرى يمثل ثورة، أو هل له طابع ثورى من الأساس، أم لا؟ يعود جزء مهم من هذا الالتباس إلى أن حراك المصريين الثورى غلب عليه إحساس الرفض لما آلت إليه أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وللنخبة السياسية والاقتصادية، التى تصدرت المشهد المصرى عشية 25 يناير 2011، بأكثر مما امتلك حراكهم هذا الوعى الضرورى بالعوامل الهيكلية التى أنتجت هذه الأوضاع. تتجاوز تلك العوامل فى الواقع دور نخبة بعينها إلى بنية النظام الاقتصادى والاجتماعى ذاته، وإلى نمط انخراط الدولة المصرية فى منظومة عولمة النموذج الرأسمالى الغربى الذى تصاعد زخم فرضه عالميا منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين بكل ما احتوى عليه من مقومات للتبعية وعدم عدالة توزيع عوائد التنمية بين المراكز الاستثمارية القوية فى الغرب والهوامش الأضعف اقتصاديا وسياسيا. وبقدر ما يُعد هذا الوعى شرطا ضروريا لكى ينتقل حراك الجماهير من مرتبة الانتفاضة أو الهوجة إلى أفق حقيقى للتغيير الثورى، فقد أخفقت النخب السياسية والمثقفة، عامدة أو متخاذلة، عن النهوض بمهمة صياغة الوعى تلك، ما فتح المجال أمام محاولات جماعات الإسلام السياسى لحرف التغيير الثورى إلى حيز الهوية الوطنية دون أى محاولة للمساس بجوهر البنى الاقتصادية والاجتماعية التى حفزت حراك المصريين، أو محاولات بعض أصحاب مصالح للالتفاف على مطالب التغيير والحفاظ على نظام التبعية الاقتصادية ونموذج التنمية بالتساقط اللذين تكرسا فى مصر منذ سبعينيات القرن العشرين. مثّل حراك 30 يونيو 2013 رفضا ونفيا لمشروع هدم الهوية الوطنية المصرية، ومحاولة سرقة آمال المصريين فى التغيير باتجاه ثورة يتصدرها تجار الدين ومدعو القداسة، لكنه أبقى مطروحا وبقوة سؤال ماهية التغيير الاقتصادى والاجتماعى المطلوب للاستجابة لتطلعات المصريين واحتياجاتهم. واليوم إذ ينطلق مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادى الذى يعول عليه كثير من المصريين لإحداث نوعية تقيل الاقتصاد المصرى من عثرته التى انحدر إليها جراء التخبط فى إدارة التغيير اللازم للاستجابة لدوافع حراك المصريين، ولإحالة حراكهم إلى ثورة حقيقية وإيجابية، يتعين على السلطة القائمة على شؤون البلاد الإجابة على سؤال رئيسى: ما هو المتوخى من خطط جذب الاستثمارات الأجنبية؟ وهنا نجد أن ارتباط هذا المؤتمر بمستقبل مصر وثورة المصريين يحدده مدى تكامل شقين محتملين للإجابة على هذا السؤال، هما: الشق الأول: تسريع معدلات التنمية وخلق فرص عمل واسعة ومتنامية لاستيعاب ليس فقط أعداد المتعطلين الضخمة، لكن كذلك الأعداد المتزايدة من الداخلين سنويا إلى سوق العمل. ويبدو هذا الشق حاضرا بجلاء فى مجمل الخطاب الرسمى المصرى المتعلق بالمؤتمر، لكن على الرغم من أهميته فإن الاقتصار عليه يعنى أن مصر قد تواجه خطر إعادة إنتاج نموذج التنمية غير العادل ذاته المشار إليه آنفا، والذى لعبت فيه الاستثمارات الأجنبية دورا رئيسيا، وكان فى نهاية المطاف نتيجة عدم عدالته سببا فى إحباط المصريين ودافعا لحراكهم. الشق الثانى، أن تكون الاستثمارات الأجنبية جزءا من خطة متكاملة تستهدف تطوير نموذج تنموى عادل وتشاركى يتيح بالفعل إعادة بناء الهياكل الاقتصادية والاجتماعية فى مصر. ويعنى العدل التنموى، وهو على ما نفهم يختلف اختلافا بينا عن العدالة الاجتماعية، بل ويسبقها، أن يكون متاحا لكل مواطن مصرى ولكل منطقة فى البلاد الوصول إلى فرص التنمية التى تتولد عن أى نموذج تنموى والمساهمة فيه والمشاركة فى اقتسام عادل لعوائده، أو بعبارة أخرى، تجاوز التهميش الذى عانت من أجزاء واسعة من البلاد طوال كل تاريخها التنموى الحديث، والانتقال من نموذج التساقط العشوائى فى توزيع عوائد التنمية إلى نموذج يضمن عدالة التوزيع وعدالة انتشاره. أما التشارك فى التنمية فيعنى أن كل مواطن وكذلك كل منطقة فى مصر يمتلكان الفرصة فى تقديم رؤية لخطة التنمية ومشاريعها الأنسب فى محيطهما، وأن يكون لتلك الرؤية فرصة للحضور فى عملية بناء خطة التنمية العامة للدولة. ومن دون الدخول فى تفاصيل لن تسعها مساحة هذا المقال، يمكن تحديد أهم ركائز تحقيق التكامل بين الشقين السابقين فيما يلي: 1- أن تتكامل المشروعات الكبرى التى يتوقع أن تكون غاية الاستثمارات الخارجية مع مشروع قومى للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، بحيث يخدم كل منهما الآخر ويعززه ويضمن انتقال عوائد التنمية إلى تلك المشروعات الصغيرة والمتوسطة. 2- أن يكون نشر مشاريع البنية الأساسية والخدمات فى مختلف ربوع مصر أحد الغايات الرئيسية لتوظيف تلك الاستثمارات الاجنبية، لأن موارد الدولة وحدها لن تفى بتحقيق هذا الغرض، فيما يعد مثل هذا الانتشار شرطا لامتداد التنمية إلى مختلف مناطق البلاد بحسب ما تكشف عنه خبرة الطرد السكانى والتنموى التى عانت منها مناطق واسعة فى مصر طوال ما يزيد على قرن ونصف كاملين. 3- التركيز على مشاريع الصناعات التحويلية ومشاريع اقتصاد المعرفة اللذين يتيحان تعظيم القيمة المضافة لأى مشروع ويعززان انتشار عوائده التنموية زمانيا ومكانيا وقطاعيا. 4- إعداد خريطة استثمارية شاملة وجديدة ومحدثة لمصر من خلال مشاركة مجتمعية واسعة، وليس فقط من خلال أجهزة حكومية بطيئة ومتنافسة وفاسدة. وهذا حديث آخر مهم فى ضرورات إعادة البناء المؤسسى لأجهزة صنع القرار فى الدولة المصرية، وهو ملف تأخر هو الآخر كثيرا.