أظن أن نسبةً كبيرةً ممن يرددون عنوان مسرحية «فى انتظار جودو»، التى هى مِن أشهر منتجات الإبداع الأدبى فى القرن العشرين، وأكثرها شيوعا بين جمهور المثقفين ومدّعى الثقافة على السواء، هؤلاء أرجّح أنهم لم يقرؤوا حرفا واحدا منها، ولا هم بالطبع شاهدوا أى عرض لها على خشبة أى مسرح ومع ذلك فهذه الكلمات الثلاث تكاد تكون حاليا مضغة فى أفواه عدد لا يحصى من الناس ينطقون بها كحكمة عميقة وأمثولة قوية الدلالة من شأنها اختصار كلام كثير يحتاج المرء إلى أن يقوله فى مناسبات ومواقف عبثية تحتل فيها الأوهام مكان الحقائق، خصوصا عندما يتعلق بعض خلق الله ويتشعبطون بآمال كاذبة أو خرافات وضلالات تزين لهم أن الخلاص من المِحَن والكوارث الكابسة فوق رؤوسهم قد يأتيهم بقوة القدر، لا بقوة العمل والكفاح، ومن فضاء هيولى بعيد خارج دائرة الواقع المعيش. إذن، تعالَ عزيزى القارئ نواصل الهرب أنا وأنت من وجع القلب، وأخبار الإجرام والإرهاب والتخريب وسيرة إخوان الشياطين وخلافه، ونلوذ كالعادة ببستان الإبداع، الذى تتألق بين جنباته ومروجه الرائعة مسرحية فى انتظار جودو ، فها هنا كل المعانى حاضرة، وكل ما نريد البوح به حاضر وواضح، لكن بنعومة وجمال.. بما فى ذلك معنى العبث و انتظار ما لا يأتى، أو ما لا يجب أن يأتى أبدا. فى انتظار جودو هى أشهر روائع صامويل بيكيت (الأيرلندى حامل جائزة نوبل للأدب، الذى ولد عام 1906 ورحل فى عام 1989) المعدود ضمن أكبر وأهم نجوم مسرح العبث، وقد أنجز بيكيت هذه المسرحية عام 1947، بينما بلدان الغرب الأوروبى ما زالت مجتمعاتها تعيش آثار عذابات ومآسى سنوات الجمر الطويلة، التى انتهت بحرب رهيبة (الحرب العالمية الثانية) كلفت البشرية (إضافة إلى خراب ودمار مروعين) أكثر من 80 مليون إنسان ماتوا لكى يتحقق الخلاص من حركات نازية وفاشية كانت قد قفزت إلى الحكم فى ألمانيا وإيطاليا وسواهما.. عبر صناديق الانتخاب كما حدث عندنا قبل ثورة 30 يونيو. فى هذه المسرحية، التى استعان صمويل بيكيت فى بنائها بمساحات صمت طويلة وجمل حوارية قصيرة ومبهمة جدا لكى ينقل للنظارة شعور القلق والعبث، فإن دور البطولة معقود لشخصين اثنين فقط، أحدهما يدعى فلاديمير والثانى استراجون ، ولا يقول لنا النص شيئا عنهما، ولا من هو جودو هذا الذى ينتظرانه بغير جدوى ولا سبب.. فقط نتابع طوال العرض حوارا غريبا يدور بين الاثنين من نوع: استراجون: هيا نذهب.. فلاديمير: لا نستطيع.. استراجون: لماذا؟! فلاديمير: لأننا ننتظر جودو.. استراجون (بيأس): آه.. هل أنت متأكد أن المكان هو هنا؟ فلاديمير: ماذا؟ استراجون: يجب أن ننتظر هنا.. فلاديمير: قال لى قرب الشجرة.. استراجون: شجرة ماذا؟ فلاديمير: صفصافة.. لا أعرف. استراجون: أين أوراق الشجرة؟ فلاديمير: لا بد أنها ميتة. استراجون: تبدو لى أقرب لشجيرة.. فلاديمير: عشبة.. استراجون: شجيرة. فلاديمير: إلامَ تريد أن تصل؟ هل نحن فى المكان الخطأ؟! استراجون: يجب أن يكون هنا.. فلاديمير: لم يقل إنه بالتأكيد سيأتى.. استراجون: طيب، وإذا لم يأتِ؟ فلاديمير: أبدا، سنرجع غدا.. استراجون: ثم بعد غد؟ فلاديمير: ربما.. على هذا النحو تمضى المسرحية.. يوما خلف يوم، و جودو يعدّ فى رسائل ينقلها فتى صغير بأنه سيأتى غدا.. لكنه لا يحقق وعده أبدا، وينزل ستار النهاية، بينما استراجون وفلاديمير ينتظران..