ما أشد احتياجنا جميعا إلى هدنة فى هذا العالم المجنون الذى يدور بنا كالطاحونة المجنونة. ما أشد الاحتياج إلى لحظة جميلة ندفئ بها أرواحنا فى هذا البرد القارس المغلف بالغيام الداكن. أقول لنفسى إننا محاطون بالفظائع من كل جانب نعم، ولكن تاريخ البشر كله مملوء بالفظائع، وكتب التاريخ مغموسة فى بحور من الدم. أكثر من مئة ألف احترقوا أحياء وذاب لحمهم بقنبلة واحدة ألقتها الولاياتالمتحدة على هيروشيما، أكثر من أربعين مليونا ماتوا فى الحرب العالمية الثانية، مليون طفل ماتوا فى العراق بسبب الحظر وقبل أى غزو أصلا. هكذا صنف بنى آدم، الشر فى نفسه يسبق الخير، وفى المناسبات التى يسبق فيها خيره شره نحتفى به، ونصف ذلك بأنها بطولة وشهامة وأحوال نادرة المثال لبشر استثنائيين، قبل أن نعود وبسرعة إلى حالنا الأصلى الأول. المثير للسخرية أن من أجل هذا نزل الله على الإنسان رسالات السماء، وكلها تقول لا تقتل، ولكن بدلا من أن ننصاع لها فإننا نقتل باسمها منذ الأزل وحتى الآن، ولحسابها تسيل بحور الدم تقربا إلى الله! ما الجديد إذن؟ الجديد هو الإنترنت، اليوتيوب ، ثورة الاتصالات التى حاصرتنا بمشاهد لم يكن يخطر لنا على بال أننا سنراها يوما. عمليات الإعدام بالرصاص على كل شكل ولون وبأسباب أو دون، مشاهد الذبح بالسكاكين والحرق بالنار صارت تحاصرنا من كل جانب وكأن كل فظائع البشر انتقلت إلى غرف جلوسنا وفى أسرّة نومنا وغزتنا فى عقر دارنا وفرضت نفسها علينا مهما أغلقنا من دونها الأبواب. أصبحت بيوتنا بجدران من زجاج ترى كل ما يحدث فى الخارج، أصبحت بيوتا بغير أبواب وأصبحنا نعيش فيها محاصرين نفسيا بكل ما نرى ونسمع، وهل هذه حياة؟ مكالمات مسربة، فضائح على الهواء، شتائم تحلق فوق رؤوسنا، وهذا خائن وذاك عميل وذلك قاتل، صراع مرير على المال الأرزاق والطعام والماء، ومن الطبيعى أن تأتى علينا لحظة تصرخ فيها أرواحنا كفاية ! لقد فت فى عضدى مشهد المصريين الغلابة وهم يذبحون، كل جريمتهم أنهم ساروا فى الأرض يبحثون عن لقمة عيش بطريق شريف. لقد ضاقت علينا بلدنا من كثرة ما توالدنا، تسعون مليونا فى عين العدو، لأن الشرع يحرم تحديد النسل حتى لو أصبحنا كغثاء السيل كما قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ولو طبق المسلمون عندنا شرع الله فى أعمالهم بإخلاص خلال ساعات النهار لما وجدوا فى أنفسهم الطاقة التى يمكن أن تساعدهم على تطبيقه بكل هذه الكفاءة خلال ساعات الليل! والنتيجة، أدخل أى محطة بنزين فى بيروت تجد عامل الطرمبة الذى يضع البنزين للبنانيين فى سياراتهم مصريا، أدخل أى مقهى فى دبى تجد عامل الشيشة الذى يحمل الفحم للإمارتيين مصريا، حدث ولا حرج، العراق قبل أن يفنى كان به أكثر من مليون مصرى، ليبيا حتى الآن بها أكثر من مليون مصرى، جنسيات النسل الزائد الفقر، بنجلاديش والهند وباكستان والآن مصر. ثم أخيرا يخرج علينا الزيادى أمين عام مجلس التعاون الخليجى ليلقى بيانا يرفض فيه اتهام مصر لقطر بأنها داعمة للإرهاب!! أول ما خطر على بالى هو أننا نأكل يوما واحدا فى الأسبوع من عرق جبيننا والأيام الستة الباقية نأكل من عرق غيرنا، أمريكا ودول الخليج، وليقل الرجل إذن ما يشاء براحته! قطر ليست سوى مخلب قط الولاياتالمتحدةالأمريكية، ما تقوله هو كلامها وما تتخذه هو مواقفها ومسألة الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة هو برنامجهما معا ذلك الذى أفسدته مصر بتخلصها غير المتوقع من الفاشية الدينية، تلك التى لجأت على الفور لكلا البلدين، قطروأمريكا. وما عذرنا وقد منحنا الله أرضا مترامية الأطراف وسواحل ممتدة فيها من كل الخيرات، لكننا لا نريد أن نغزوها، رغم أنه من المحتم علينا حقا أن نعتمد على أنفسنا، أنا لا أصدق مثلا أن كل هذه الصحراء المترامية التى تتجاوز مساحتها دول الخليج الصغيرة مجتمعة خالية من البترول الذى تعوم فيه جارتنا ليبيا بعد السلك مباشرة. باختصار، ورغم كل شىء فأنا لا أفقد إيمانى بالإنسان، ولعل أهم ما نريد صنعه فى بلدنا هو إنسانها، أحلم بمشروع كبير يرتقى بالإنسان فى بلدنا لكى يستطيع هو بدوره أن يرتقى ببلدنا، الإنسان المصرى الذى أهملته الدولة كثيرا حتى وإن انشغلت بإطعامه. السنوات الست الأولى من عمره كافية فى هذه المرحلة، كيف نعلمه خلالها؟ كيف نبنيه؟ كيف نصنع قيمه وأخلاقه؟ كيف ننمى فيه حبه للثقافة وللعلم وفضوله بهما، كيف نعلمه أن الإسلام رحمة؟ نريد أن نزرع بذرة جديدة من خلال مدارسنا الابتدائية بكل جدية وجرأة، فالشجرة لن تطرح ثمارا جيدة بغير بذور جيدة.