يعرف الجميع العلاقة التى كانت تربط بين قيادات ثورة يوليو 1952 وجماعة الإخوان المسلمين، وأن جمال عبد الناصر ذاته كانت له علاقة ما بالتنظيم، وكان له اسم حركى هو «زغلول عبد القادر»، كما كان له اسم حركى فى جماعة شيوعية أخرى، وهو اسم «موريس»، وهذا من المفترض أن لا يجعل جماعة الإخوان طامعين وجامحين للقفز على السلطة، طالما أن زعيم الثورة نفسه، جعل منهم أحد الكروت الرابحة فى مرحلة ما من مراحل الذهاب إلى الثورة، ومن المعروف أن جمال عبد الناصر، وهو العقل الأول والمدبر الأعلى، والقائد الحقيقى لتنظيم الضباط الأحرار، الذى تحمل عبء القيام بالثورة، وإنجاز المرحلة الأولى، والتى تتلخص فى الإطاحة بالحكم الملكى، والاستيلاء على السلطة، وتحقيق النظام الجمهورى، وتنصيب اللواء محمد نجيب رئيسا لتلك الجمهورية الفتية والوليدة، كان يعقد علاقات مختلفة ونوعية مع كل القوى السياسية اللاعبة فى الساحة آنذاك، والتى لها أى حضور فى تحريك الأحداث، بداية من حزب مصر الفتاة بقيادة أحمد حسين، والحزب الوطنى بقيادة محمد حافظ رمضان وعبد الرحمن الرافعى، ثم الحزب الوطنى الجديد بقيادة فتحى رضوان، مرورًا بالشيوعيين عبر وساطات أحمد حمروش وخالد محيى الدين، نهاية بجماعة الإخوان المسلمين، وكان رجلهم الضالع فى تنظيم الضباط الأحرار عبد المنعم عبد الرؤوف، الذى لعب دورا تآمريا كبيرا بعد قيام الثورة، وقُبض عليه، وكتب مذكراته فى ما بعد، زاعما أنه هو الذى طرد الملك فاروق. وأسفرت الشراكة التى كانت بين جماعة الإخوان وثورة يوليو عن توزير الشيخ أحمد حسن الباقورى -عضو الجماعة- وزير الأوقاف فى أول حكومة للثورة، وعندما بدأ مجلس قيادة الثورة فى تشكيل حكومته الأولى، برئاسة على ماهر، وعرضوا على جماعة الإخوان اختيار ممثلين لهم فى الحكومة الأولى، اقترحوا بالفعل ثلاثة أسماء، كان من بينهم حسن العشماوى أحد صقور الإخوان، ولكن لم يستقر الاختيار إلا على الشيخ الباقورى لاعتداله، وتجنبه لكل وسائل العنف، وعندما ذهب الباقورى ليحصل على موافقة مكتب الإرشاد، وافقوا بالفعل على توزيره، ولكنهم طلبوا منه الاستقالة من الجماعة، وبالفعل، قدم الباقورى استقالته، وانفصل عن الجماعة تماما، وانضم بكليته إلى صفوف الثورة. وكان الباقورى قد انتمى إلى الجماعة منذ بواكيرها الأولى فى الثلاثينيات من القرن الماضى، واقترب جدا من الشيخ حسن البنا، وقبض عليه فى عدد من القضايا التى تخص جماعة الإخوان المسلمين، ولكنه بدأ يتذمر بعد التوجه الذى اختاره التنظيم السرى الخاص فى الجماعة، وهو طريق العنف والاغتيالات، وهو يرى أن العنف هو الذى أساء إلى الإسلام والمسلمين والتاريخ الإسلامى أيما إساءة، ويقول فى مذكراته إن كل بلاء بساحة الإسلام والمسلمين إنما نشأ بمقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وتغذت شجرته من دم ذلك الشهيد العظيم، وفى تاريخنا الحديث رأينا العنف يأخذ الطريق على خطط الإصلاح التى أراد لها زعماء الأمة أن تقود وأن تسود .. ويستطرد إن الاستعانة بالعنف الدامى على تأييد خطوات الإصلاح والتمكين للمصلحين لم تثمر إلا أسوأ النتائج ، ويكشف فى مذكراته عن خطط الجماعة فى تلك المرحلة، فكانت تدبر إنشاء ثلاث شعب بينها، شعبة فى الجيش قوامها الضباط والجنود ولهم رئيس مسؤول، وشعبة فى الشرطة، وشعبة الدعاة القادرين على الدرس، ورؤساء الشعب الثلاثة مسؤولون أمام المرشد العام للإخوان المسلمين، ويتحدث الباقورى عن القواعد الثلاث التى أرستها قيادات الجماعة منذ إنشائها، القاعدة الأولى تغيير العرف الذى كانت الشعوب المغلوبة تحتكم إليه، أما القاعدة الثانية -كما يراها الباقورى- هى الطريق الدستورى بمعنى أن يجتمع الإخوان فى أى دائرة انتخابية، ثم يرشحون من بينهم واحدًا له عصبية تمكنه من الظفر بمقعد فى البرلمان، فإذا لم يجدوا ذلك فى صفوفهم، فعليهم أن يؤيدوا واحدا يكون أهلًا لتأييدهم حتى يظفر بهذا المقعد الخطير، وتحدث الباقورى عن شواهد فى هذا المجال، وتعليقنا على هذه النقطة أن هذا الأسلوب هو الغالب دوما الذى يستخدمونه فى لحظات انحسار دعوتهم المعلنة، فتلجأ قياداتهم إلى ذلك الأسلوب نصف المستتر ونصف المعلن، أما القاعدة الثالثة فهى الاستيلاء على الحكم بالقوة القاهرة والثورة الظافرة -بتعبيره- التى يخطط لها فلاسفة مؤمنون -كما يرون- وينفذها شجعان مخلصون، ويستثمرها لخير الأمة أمناء صادقون. ورغم أن الباقورى لم يفعل سوى أنه قَبل أن يكون وزيرًا فى حكومة ثورة يوليو، فإنه كان هدفا دائما لسهام الجماعة، وكان هو قد راح يلقى بأحاديثه المستنيرة، ويحاول بقدر الإمكان إصلاح ما يمكن إصلاحه فى شؤون الأزهر، خصوصا أنه كان أحد قيادات إصلاحه فى شبابه وسجل له التاريخ أنه ناهض الرجعيين فى فترة ما من فترات تراجعه، وكانت أحاديث وإجراءات ومواقف الباقورى تثير الجماعة بشكل كبير فيزداد هجومهم عليه. ومن بين هذه الأحاديث، هذا الحوار الذى أجرته معه صحيفة المساء فى 18 فبراير عام 1957، والذى تصدرته عناوين تقول: الباقورى يقول: لا أمانع فى إنشاء مسجد للسيدات.. تعيين إمامة للمسجد يجعله مخصصا لهن وحدهن.. اللحم الصينى يذبحه دينيون فأكله حلال.. الحب موجود فى جميع الشرائع الإسلامية ، وجاء الحوار تفصيلا لهذه العناوين، والذى يراجع كتابات واجتهادات الباقورى على مدى تاريخه، سيشعر بأننا فى حاجة ملحة إلى استعادة هذه الرؤية الإسلامية المستنيرة، فى ظل فقهاء العنف والقتل والذبح فى زمن داعش والغبراء.