أندهش كثيرًا من الطريقة التى نقرأ بها أحيانًا الأفلام الأمريكية، يذهلنى أننا نتوقع أن يصنعوا الأفلام لكى تعبر عن رؤيتنا نحن، ولا عن رؤيتهم هم، إننا نقرأ تقريبًا بعض الأفلام الأمريكية وفقًا لأفكار سياسية مسبقة، نسقطها على العمل، فنكون بذلك قد قرأنا فيلمًا آخر فى عقلنا، وليس الفيلم الذى نشاهده، دون وضع الأفلام فى سياقها، ودون فهمها كما هى، وليس كما نسقطه عليه، لن نستطيع استيعابها، ودون استيعابها لن نستطيع تفنيدها أو مناقشتها. الفيلم الأمريكى American sniper أو القناص الأمريكى الذى أخرجه كلينت إيستوود، والذى ينافس على جوائز الأوسكار لعام 2015، حالة نموذجية لهذه القراءة الملتبسة. شاهدتُ الفيلم بتركيز شديد بعد اللغط والقراءات المتناقضة المكتوبة عنه. أختلف فى البداية أصلًا على أن موضوع الفيلم هو حرب العراق، رغم أن معظم الأحداث تدور هناك، موضوع الفيلم هو أيقونة أمريكية وهوليوودية ترددها أفلام كثيرة، إنها فكرة الدفاع عن الوطن حتى النهاية، وما تجربة بطل الفيلم القناص كريس كايل ، وهو شخصية حقيقية، إلا الترجمة النموذجية لتلك الفكرة، هو شخص غير مسيّس بالمرة، ولكنه يعتقد (هذه وجهة نظره ووجهة نظر صناع الفيلم معًا) إنه إذ يواجه شر القاعدة بالعراق، فإنه يحمى عائلته الصغيرة ووطنه فى أمريكا، القاعدة هاجمت أمريكا فى 11 سبتمبر، كايل ابن تكساس، مدينة رعاة البقر، تعلم من والده فى طفولته أن عليه أن يرفض أن يكون خروفًا أو ذئبًا، وأن دوره أن يكون كلبًا يحرس القطيع، كايل عالمه محدود، يعمل فى مزرعة ويعشق رياضة الروديو، ولذلك لا يرى سوى هذه الفكرة التبسيطية: الدفاع عن الوطن بمواجهة الشر حيث هو، هذه هى فكرة الفيلم سواء كان ميدان الحرب العراق أو أى مكان آخر، سيقول كايل ذلك مباشرة لصديقه المتردد، كايل جاء إلى العراق لمحاربة الشر حسب تفكيره، ومرة أخرى هذه رؤيته ورؤية صناع الفيلم، وليست رؤيتنا، سنكتشف أن بطل الفيلم يتبنَّى أيضًا بقية أيقونات الفيلم الهوليوودى: الدفاع عن الوطن وعن الأسرة، بل إنهما فى رأيه شىء واحد، ثم يتحدَّث فى النهاية عن الأيقونة الثالثة، وهى الله، يقول إنه مستعد لكى يحاسب أمامه عن 160 شخصًا قتلهم كقناص فى العراق، هذا هو الفيلم ببساطة، ودون زيادة أو نقصان. تخدم هذه الطريقة التبسيطية بالطبع منطق اليمين الأمريكى، وتنتهز فرصة أن القناص كانت مهامه مرتبطة فى العراق فعلًا بمهاجمة القاعدة والزرقاوى ومساعده الملقب الجزار سواء فى الفلوجة أو الرمادى أو مدينة الصدر، فيبدو الأمر كما لو أن أمريكا غزت العراق لمحاربة القاعدة، مع أن الغزو هو الذى هدم الدولة، مما أفسح مجالًا لظهور القاعدة ثم داعش فى العراق، الهدف من ذلك تحييد المشاهد الأمريكى الرافض لغزو العراق، وتقديم التحية إلى الجندى المعلوم كريس كايل، أشهر وأشرس قناص فى تاريخ الجيش الأمريكى، وتقديمه باعتباره الرجل الذى أنقذ زملاءه بقتل الآخرين. ليس فى الفيلم أى عنصرية، لأن ما نراه هو منطق الحرب عمومًا: أن تقتل شخصًا لا تعرفه، لأنك إذا لم تفعل سيقتلك هو. الحرب فى معظمها ليست ضد المقاومة العراقية، لكنها ضد القاعدة وأتباع مصعب الزرقاوى، وحكاية تصنيف الناس إلى ذئاب وخراف وكلاب تحمى الخراف يطبقها كايل أولًا على زملاء فصل أخيه الذين يضربونه، أى أنها تسبق حرب العراق بسنوات طويلة، تفكير كايل كله تحكمه فكرة الحماية لا القتل، وما يزعجه أنه فشل فى حماية زملائه، وليس عدد من قتلهم، وهذا المنطق بالمناسبة هو ذاته الذى يحكم تصرفات قناص القاعدة مصطفى، والذى لو تكلم لقال لنا إن الشر هو جنود أمريكا، وإنه يحمى خراف القاعدة، ويؤمن بالله، ولديه عائلة نراها، ووطنه هو دينه، لا أعرف بالضبط إذن أين تكمن العنصرية فى هذا الفيلم؟!! أدَّت هذه القراءات الملتبسة إلى غياب التقييم الفنى فى معظم الحالات، تاه فى المعمعة أننا أمام فيلم متوسط المستوى، عناصره المميزة لا تزيد فى رأيى عن أداء برادلى كوبر المميز فى دور القناص كريس، وهناك أيضًا المونتاج الذى حافظ على تماسك الرحلات الأربع التى ذهب فيها كايل إلى العراق، والذى قدم انتقالًا مذهلًا بين لحظة القنص فى الحاضر، ولحظة القنص فى الطفولة، والتميُّز أيضًا فى الصورة ما بين أجواء الحرب المتربة، وأجواء أمريكية مثل كروت البوستال، وهو أمر مقصود الطبع حتى يقتنع المشاهد الأمريكى بالأساس بأن وطنه جنة تستحق الدفاع عنها ضد الأشرار. الفيلم بالتأكيد مخالف لرأيى حول التورُّط الأمريكى فى العراق، كان تورطًا من أجل البترول وإعادة تشكيل المنطقة، وليس من أجل محاربة القاعدة، كان تورطًا زاد من الإرهاب ولم يقضِ عليه، وأفرز داعش الأكثر خطورة من القاعدة، ولكن الفيلم يبسط الحكاية لجمهوره الأمريكى، يمجد مقاتلًا محترفًا لم يشغل نفسه أصلًا بالسياسة، وإنما أراد أن يتعامل بمنطق الكاوبوى المباشر، وعلى نطاق أوسع، الفيلم من هذه الزاوية أمريكى جدًّا، ومسطح جدًّا فى نفس الوقت، لا يحلل أى شىء، ولا يعنيه إلا فكرة الحماية سواء فى الداخل أو الخارج. يجب تفنيد ومناقشة الفيلم على كل المستويات، ولكن أولًا يجب أن نفهمه كما هو، بدلًا من الحديث عن عنصرية لا وجود لها، وبدلًا من هذا العبط الذى يدفعنا إلى تصوُّر أن أفلامهم يجب أن تعبِّر عن رؤيتنا نحن، وأن مخرجًا أمريكيًّا يجب أن يمجِّد القناص العربى لا الأمريكى، ارحمونا من هذا الهراء، وعلينا أن نستشعر الخجل والحياء، لأننا لا نستطيع حتى هذه اللحظة أن نصنع فيلمًا يمجِّد جنودنا، أو يعبِّر عن رؤيتنا.. حاجة تكسف والله.