غادرت حاملة الطائرات الفرنسية "شارل ديجول" التي تعمل بالطاقة النووية، يوم الثلاثاء 13 يناير الجاري، ميناء طولون في طريقها إلى منطقة المحيط الهندي والخليج العربي للمشاركة في عملية "العزم التام"، التي يشنها التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش". وعدّ الرأي العام ووسائل الإعلام في فرنسا إرسال أهم سفن البحرية الفرنسية والتي يمكنها حمل 40 طائرة مقاتلة، و800 من عناصر الكوماندوز و500 طن من الذخائر، دليلا على عزم الإدارة الفرنسية مواجهة مكامن الإرهاب في الشرق الأوسط والذي طال شره قلب فرنسا الإقليمي والفكري في مطلع هذا الشهر. وستمر "شارل ديجول"، التي يتوقع أن يستمر تواجدها في المنطقة حتى مطلع شهر مايو المقبل على الأقل، على مرمى حجر من ملاذات تنظيم "القاعدة في شبه جزيرة العرب" الحصينة في جنوب اليمن دون أي خطة لاستهدافها. والمفارقة أن "القاعدة في شبه جزيرة العرب"، وليس "داعش"، هو من تبنى الهجوم الأخير ضد صحيفة "شارلي إبدو"، بل وحثّ في شريط فيديو بثه الثلاثاء 20 يناير الجاري عناصره ومؤيديه على شن مزيد من الهجمات الفردية أو ما يعرف بعمليات "الذئب المنفرد"، في بلدان الغرب. يمثّل هذا النمط في التغافل عن تنظيمات إرهابية لا تقل خطرا عن "داعش"، وإرجاء مواجهتها، مثلما يبدو الحال في اليمن وليبيا، إحدى السمات البارزة للحرب الدولية على الإرهاب في الشرق الأوسط. بل اقتصرت مواجهة تنظيم "القاعدة" في اليمن طوال ما يزيد على عقد كامل على هجمات محدودة للطائرات الأمريكية من دون طيار، ما يطرح بقوة التساؤل حول ماهية الأجندة الحقيقية ليس فقط وراء نشر حاملة الطائرات الفرنسية، بل وراء مجمل تلك الحرب المزعومة على الإرهاب في المنطقة التي بات جليا بشكل متزايد طبيعتها الهزيلة والهزلية حيث لم يتاح لهذا التحالف الضخم بعد مرور نحو ستة أشهر على بدء حربه ضد "داعش"، تدمير بنية هذا التنظيم الإرهابي. ويبدو أن نشر حاملة الطائرات الفرنسية يستهدف تحقيق عدة أهداف أخرى لا تتعلق بمواجهة الإرهاب أو حربه، بقدر ما ترتبط بمحاولة فرنسا إيجاد موطئ لها ولمصالحها في خضم عملية تغيير الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط التي يبدو أنه لا يزال يجري العمل عليها بشكل حثيث في الدوائر الغربية ذات النفوذ والتأثير في سياسات المنطقة. إلا أن المردود الأول لهذا الانتشار كان داخليا بامتيار، حيث شهد يوم الثلاثاء ذاته الذي شهد إبحار "شارل ديجول"، موافقة 488 نائبا من إجمالي 502 هم إجمالي أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية على قرار بمواصلة مشاركة فرنسا في عمليات القصف الجوي في العراق. ويُعدّ هذا التوافق السياسي غير المسبوق طوال نحو ستة عقود من عمر الجمهورية الفرنسية الخامسة، إدارة الرئيس الفرنسي هولاند "قُبلة حياة" بعدما تدنت شعبيته إلى أدنى مستوى بين رؤساء تلك الجمهورية الخامسة جميعا، حيث لم تتجاوز، قُبيل الهجمات الإرهابية الأخيرة، ال20% في استطلاعات الرأي العام. امتنع عن التصويت على القرار النواب الشيوعيين واليساريين المندرجين ضمن ما يعرف بجبهة اليسار، إلا أن هؤلاء لم يسعهم معارضة القرار، خشية خسارة قطاع مهم من الرأي العام الفرنسي الذي بدا متوحدا حول هدف الانتقام. وعارض القرار نائب واحد هو چون بيير جورچ، منتقدا ما يبدو من نزعة متزايدة في السياسة الفرنسية للعب دور "شرطي العالم الصغير". ولعل ذلك الوصف هو الأدق في بيان هدفين آخرين تسعى فرنسا لتحقيقهما في الشرق الأوسط، يتمثل أولهما في أن تحل القوة العسكرية الفرنسية محل نظيرتها الأمريكية في ممارسة بعض الأدوار الأمنية التي يبدو أن الولاياتالمتحدة باتت غير متحمسة للقيام بها في المنطقة. بعبارة أخرى، يبدو ان السياسة الفرنسية تحاول الاستفادة من فرصة الفراغ الأمني الذي قد ينشأ، خاصة في منطقة الخليج، في ظل سعي الولاياتالمتحدة لخفض انخراطها الأمني في المنطقة، والذي يبدو رغم عودته مجددا في حربها الحالية على "داعش"، انخراطا متحفظا ومترددا. من شأن لعب فرنسا مثل هذا الدور أن يمنحها فرصا مهمة في تسويق صناعتها الدفاعية، وفي الحصول على أفضلية في الوصول إلى صفقات نفطية مهمة خاصة في منطقة الخليج والعراق. أما الهدف الثاني فهو محاولة لعب دور رئيسي وحاسم في مستقبل سوريا، خاصة مع إصرار فرنسا على رحيل الرئيس بشار الأسد، حتى لو تم ذلك من خلال تدخل عسكري. وفتحت فرنسا بالفعل قناة اتصال مع روسيا لمحاولة فرض هذه الرؤية قبيل جولة الحوار التي تعتزم هذه الأخيرة استضافتها بين النظام والمعارضة السوريين، في شهر مارس المقبل. وفي حال فشل تلك الجولة، يرجح أن يتقدم حل التقسيم الطائفي ويتكرس، واقعيا، في ظل دعم عديد من الأطراف الإقليمية التي يبدو أن كل منها بات يخشى بشكل متزايد من تصاعد نفوذ أي من الأطراف الأخرى في ظل أي تسوية نهائية للأزمة السورية. ويتوقع أن تلعب فرنسا، في هذا الإطار، دورا عسكريا مهما لدعم الأقليات المسيحية خاصة قي سوريا ولبنان، ما يمنح تعزيز انتشارها العسكري في المنطقة حاليا أهمية إضافية. يمثل السلوك الفرنسي نموذجا آخرا جليا لبعض أجندات المصالح المتسترة خلف الحرب المزعومة على الإرهاب في المنطقة. وتبقى المعضلة أنه من دون رؤية وخطة عربيتين واقعيتين لاستعادة الدولة وإصلاحها على أسس ديمقراطية ووطنية ستبقى المنطقة تعاني من عصف التطرف والإرهاب اللذين باتا يتماهيان مع خطوط الانقسام الإثني، وكذلك عصف التدخل الخارجي بما بقي من أطلالها.