تبدو السرديات المصرية والعربية فى حالة من الازدهار الكمى من حيث كم الإنتاج من الرواية إلى القصة وقصيدة النثر، على نحو ما تشير إليه حركة النشر فى جميع البلدان العربية، وما يقدم إلى عديد من الجوائز الوطنية، أو العربية. بعض ما ينشر من إنتاج سردى يحمل بعضا من الإبداع وثراء المخيلة والمرويات، والعوالم التخيلية التى يتم بناؤها من بعض الساردين الموهوبين الذين تمكنوا من أدواتهم اللغوية والبنائية المجازية، لكن تظل هذه الأعمال استثنائية وقليلة جدا، مقارنة بالإنتاج الكبير لا سيما فى مجال السرد الروائى الذى لا يزال وصف جابر عصفور عن زمن الرواية يحمل بعضا من الصدقية، وربما الطلب القرائى على الرواية هو الذى دفع بعض القصاصين والشعراء إلى هجر معاقلهم وأجناسهم التى يجيدون فيها إلى هذا العالم الروائى الرحب، الذى يكشف عن مستويات الموهبة والإبداع والتمكن لدى بعضهم، وعن الزيف والتمحل وركاكة الأساليب السردية ومجازاتها، بل وضحالة التخييل وضعف البنية السردية والتركيب لدى كثيرين فى الإنتاج الروائى فى مصر وعالمنا العربى. يبدو أن وراء هذه الظاهرة عديدا من الأسباب التى يمكن رصد بعضها فى ما يلى: 1- سطحية التجارب الفنية والإنسانية لدى بعض الكتاب والكاتبات، بحيث تجعل من الكتابة محض اقتناص فكرة ما أيا كان عمقها، أو هشاشتها وضعفها، وتشكيل العمل حولها، من حيث الشخوص والحكى، ومن ثم تتجلى هشاشتها وضعفها البنائى، ناهيك بالفقر الأسلوبى والسردى على مستوى البنية اللغوية والسردية. 2- ضعف مستويات التكوين المعرفى لدى بعض الكتاب والكاتبات، وتراجع القراءة العميقة فى الفلسفة والسوسيولوجيا والسياسة، كروافد للتكوين المعرفى الذى يؤدى كخلفية فى تعميق عملية التخييل فى بنية السرد ومجازاته وعوالمه. 3- ضعف مستويات اللغات الأجنبية مما يعسر على كثيرين الاطلاع على الآداب العالمية والفنون المختلفة من الموسيقى والغناء والتصوير التشكيلى والنحت والأعمال المركبة، وتطور هذه الفنون ومدارسها وشخوصها الإبداعية المتميزة. 4- الاقتصار على قراءة الروايات والقصة القصيرة المصرية أو العربية، وبعض الأعمال المترجمة عن الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية. هناك أسباب أخرى وراء حضور اللغو والثرثرة ولغة الكليشيهات الوصفية أو المجازية، تعود إلى عدم استيعاب أصول الفن الروائى والسردى وأشكاله وأساليبه من الناحية النظرية، بعضها الآخر يعود لضعف مستوى الدرس الأكاديمى والنظرى فى الكتابات النقدية، أو لعدم المشاركة فى ورش التعليم على الكتابة الروائية والقصصية، التى ظهر بعضها فى مصر وبعض البلدان العربية كلبنان على سبيل المثال من قبل بعض الكاتبات والكتاب الروائيين. من ناحية أخرى هذه الورش قد تسهم فى نقل بعض خبرات الكتابة الروائية من قبل بعض الكتاب والكاتبات المعروفين نسبيا على مستوى المشهد الروائى المصرى أو العربى، إلا أنها ليست كافية فى تكوين أدوات الكاتب أو الكاتبة الشابة، ومن ثم لا تغنى كثيرا عن التحصيل والمتابعة. من ناحية أخرى بعض هذه الورش قد تساعد بعضهم على الإجادة وهم قلائل، وقد تدفع بعضهم إلى سلوك سبيل الكتابة الرائجة دون تميز أو موهبة مكتملة لديهم. من أخطر أسباب تراجع مستويات السرد والتخييل الروائى، فى المشهد الراهن يتمثل فى محاولة إعادة إنتاج تجربة جيل التسعينيات المهمة فى مصر، والتى ركز بعض كتابها وكاتباتها النابهين والنابهات على اليومى والمشهدى والذاتى والجسدى كمنطلق لفهم العالم عبر الذات من خلال لغة جديدة شهوانية وجسدانية بامتياز، فى ظل تقوض عوالم السرديات الكبرى، والأيديولوجيات، والأحكام المطلقة واليقينيات، والتعامل مع الجزئى والنسبى فى ظل تذرى وتشظى العوالم الكبرى وأقانيمها الكلية وحقائقها. هذا الجيل أحدث نقلة نوعية فى السرد الروائى المصرى والعربى، وقدم أسماء لامعة. أثرت هذه السرديات الجديدة وأخيلتها وعوالمها ما بعد الحداثية على كتابات أجيال سابقة ولاحقة عليها. إلا أن الأجيال الجديدة ما بعد التسعينية تستعير بعضا من هذه السرديات كمثال تحتذيه ومن ثم تخفق تجاربها فى حدود هذه الحالة الجيلية التسعينية. بعض السرديات الراهنة تحاول الرجوع إلى التقليد الكتابى الستينى والسبعينى، لكن فى ظل هيمنة لغوية باتت نمطية وبعضها يتسم باللغو والركاكة والإنشائية. بعضهم الآخر يحاول مخاطبة أجيال جديدة لم يتكون لديها تقليد قرائى للأعمال الروائية، ومن ثم يحاولون تقديم عوالم روائية بسيطة من خلال توظيف عوالم الكوابيس، والحركة والنزعة البوليسية والتشويق، أو الرجوع إلى التاريخ ومحاولة إعادة بنائه فى هذا السياق السابق، ومن ثم أصبحوا جزءا من ظاهرة الروايات الأكثر مبيعا، والتى تحاول بعض دور النشر التى لا تمتلك رؤية وسياسة تحريرية أن تساعد على ذلك من خلال ظاهرة عدد الطبعات المصطنعة على أغلفة بعض الروايات. ساعد أيضا على تدهور مستويات السرد ونوعيته خضوع الكتاب والكاتبات لشروط الترجمة لبعض اللغات الأجنبية، من خلال تصنيع العمل الروائى فكرة وبناء وموضوعا وشخوصا، ومن ثم الانصياع إلى نمط الاهتمامات الغربى الاستشراقى، حول التهميش على أساس دينى، أو مثلى، أو من خلال الجنس، أو قهر المرأة فى مجتمع تغلب عليه نزعة المحافظة الاجتماعية والتشدد والتزمت الدينى أو المذهبى، أو الإرهاب... إلخ. بعض هؤلاء بات مهموما، ومشغوفا بالترجمة كأحد أبواب السفر إلى المؤتمرات والتظاهرات الثقافية ومعارض الكتب، أو ورش العمل الأدبية، أو منح الكتابة لا سيما للسيدات فى بعض البلدان الأوروبية والأمريكية. أدت ظاهرة الجوائز العربية فى الرواية فى منطقة الخليج العربى إلى خلق حالة من الهوس الكتابى السنوى من أجل التقدم إلى هذه الجوائز من كبار الكتاب، أو شبابهم، ومن ثم أصبح الطلب على الكتابة السردية محموما فى السعى لاقتناص هذه الجائزة أو تلك. من هنا نستطيع القول إن كثرة الأعمال السردية لا تعكس فى بعض الأحوال علامة على تنوع الإبداع الروائى، وتطوره، وإنما تشير إلى اعتلال وضعف عديد من الأعمال التى تنشر، لا سيما فى ظل ظاهرة حصول بعض دور النشر على قيمة ما ينشرونه من أعمال من الكتاب والكاتبات. من ناحية أخرى مشاطرتهم للكتاب قيمة الجوائز التى قد يحصلون عليها فى مقابل ترشيح أعمالهم إلى الجوائز، وهو أمر يفتقر إلى القيمة المهنية والأخلاقية من بعض دور النشر. إن الحالة الراهنة للسرد الروائى فى مصر تحتاج إلى مراجعات سوسيو ثقافية ونقدية، فى مقابل تطور بعض السرد فى أكثر من بلد عربى. ثمة بعض الأعمال السردية المتميزة مصريا هى التى تعطى الانطباع الخاطئ بأن الإنتاج الروائى والقصصى المصرى لا يزال يحظى بالحضور اللامع فى المشهد الروائى العربى الراهن، لكن ذلك فى ما يبدو يحتاج إلى مراجعة.