لماذا يحبون مبارك؟ السؤال الأهم.. لماذا يتعجب الثوار من وجود مؤيدين لمبارك ينشئون باسمه صفحة عنوانها: آسفين يا ريس؟ يحبون مبارك، لأنه لم يحكم 30 سنة من فراغ، بالتأكيد له قوة اجتماعية مستفيدة، وصدمت حين أسقطته قوى الثورة فى 25 يناير بهذه السهولة. نعم يجب الاعتراف بأن هناك قوى فى الشعب تساند الديكتاتور، وتنتظر عودته، كما ينتظرون مبعوث العناية الإلهية. ومبارك البارد الذى كان يتصور نفسه خفيف الدم، المتردد، الموظف، الماكر، تعامل مع نفسه على أنه مبعوث هذه العناية، وهذا سر غطرسته هو وأولاده فى المحاكمة. غطرسة فى القفص، هذا كل ما لدى الديكتاتور، أما مؤيدوه فلديهم الكثير يفعلونه أمام الكاميرات، وفى بث اليأس وإعادة إنتاج الإحباط. بحثت فى تاريخ الثورات الحديثة عن أحوال ما بعد الديكتاتور، ووجدت أن تشيلى قريبة الشبه، الديكتاتور بينوشيه جنرال دعمته أمريكا للانقلاب على الرئيس سلفادور الليندى المنتخب فى سنة 1970 بإرادة شعبية. الليندى كان طبيب الفقراء ومع عدالة اجتماعية اشتراكية أقلقت مصالح الولاياتالمتحدة فى أمريكا اللاتينية، ولم يكن أمامها حل إلا دعم الجنرال بينوشيه ليحاصر بدباباته قصر الرئاسة ويقتل الرئيس المنتخب ويرتدى وشاح الحاكم من 1973 إلى 1990. بينوشيه ديكتاتور قاتل وراعى فساد كما أثبتت المحاكم المحلية والدولية، ومات مطارَدًا من القانون فى كل أنحاء العالم، لكنه كتب فى وصيته قبل الموت فخورا بما سماه «الإنجازات الضخمة» التى حققها للشعب. هكذا يفكر الديكتاتور، فهل تتوقعون من مبارك الندم أو الشعور بالعار، ومن مؤيديه الاعتراف بأنه كان مجرما وأنهم ليسوا سوى بطانة مجرمين؟! إنهم مساكين، أعداء إنسانيتهم، وباعوا أرواحهم إلى المصلحة الصغيرة والأحلام التافهة جدا. هؤلاء هم الأرضية الطبيعية للديكتاتورية ولا بد من اعتراف بوجود هذه الأرضية قبل وبعد 25 يناير. مبارك الآن مجروح هو وبطانته، كما جرح بينوشيه عندما ألقى القبض عليه فى لندن فى زيارة، كان يجرى فيها فحوصات طبية، ويحصل على عمولته فى صفقة سلاح. لحظة القبض على الديكتاتور نزعت عنه المهابة الكاذبة، وجعلته عاريا فى مواجهة شعبه. مبارك عاريا الآن فى القفص دون هيلمانه، يخترع هو وأولاده هيلمانا خادعا، ويبثون من خلف القضبان رسائل محبطة، ولأن الوعى الثورى ما زال فى مرحلته العاطفية تبدو رسائل مبارك وبطانته مؤثرة. الوعى العاطفى يُصدم من وجود مجموعة «آسفين ياريس» وينشر نيابة عنها رسائل اليأس دون أن يلتفت إلى أن هذه الرسائل توقظ مؤسسات وأجهزة ما زالت تدار بعقلية سلطوية ولا تعرف غيرها. الثورة تحتاج إلى وعى سياسى يرى فيها معارك وجولات، وليست نزهة فى ميدان التحرير، أو فيديو كليب يثير المشاعر والدموع فى نهايته. الوعى السياسى ما زال يحبو مقارنة بوعى عاطفى مشحون بالكامل ضد الديكتاتور وآثاره، الوعى السياسى لا يرى ما فعله الشعب حين استطاعت القوى الثورية تحطيم أسوار برلين داخل كل من خرج ليسقط الديكتاتور. ولا يرى فى نفس الوقت أن فى هذا الشعب نفسه -وربما فى من خرجوا بعد 25 يناير- من هم ليسوا ديمقراطيين بالكامل وأن لديهم ميولا للشمولية والديكتاتور بشكل أو بآخر. أعتقد أننا نحتاج إلى اعتراف الآن: بأن الشعب ليس كله ثوريا ولا كله مغيبا فى متاهات الديكتاتور. واعتراف آخر: الوعى السياسى ينمو بسرعة أقل من حركة الأحاديث، لأن الوعى العاطفى يستهلك الطاقات والأرواح، بينما الاحتياج الكبير فى الوعى والتنظيم. الثورة انتصرت، والطريق إلى التخلص من نظام الديكتاتورية ليس مفروشا بالمارشات العسكرية والزغاريد الملونة، لكنه مزروع بالألغام. القوى الثورية تحتاج إلى تنظيم ووعى سياسى، لا ينتظر تحقيق مطالب، ولكنه يهتم ببناء الدولة على أساس ديمقراطى، لا يكتفى بفعل رمزى لكسر هيبة السلطة ما دامت السلطة قد سقطت مرة وبهذه السهولة. الثورة فى طريقها إلى الموجة الثالثة.