فى كلمته التى وجهها، يوم الخميس 2 يناير الجارى، بمناسبة الاحتفال بذكرى المولد النبوى الشريف، دعا الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى مؤسسة الأزهر وعلماءها إلى النهوض بما عدّه «مسؤوليتهم أمام الله» فى إصلاح الخطاب الدينى، بعدما بات هذا الخطاب معبئا بأفكار تضع من يعتنقها فى مواجهة «مع الدنيا كلها». وإذا كانت تلك الكلمة تعكس إدراكا طالما كرره، الرئيس السيسى منذ حملته الانتخابية بمخاطر التطرف الفكرى الآخذ فى الانتشار بين المسلمين وبشأنهم بين الكثير من شعوب العالم وقواه الأخرى، فإنها فى من حملته مسؤولية الإصلاح تلك تعكس كذلك معضلة فكرية أساسية، لا تقتصر على الإسلام فقط، بل ترتبط بكل الأديان التى يعتنقها البشر، ألا وهى معضلة «السلطة على النص الدينى»، أى من يمتلك حق الحديث باسم الدين، وبالتالى انتحال ما له من قداسة بين جموع المؤمنين به. ونظن أن عدم حسم هذه المعضلة، كان أحد العوائق الرئيسية التى أدت إلى تعثر كل حركات الإصلاح الدينى فى الشرق، ونكوصها المتكرر. وبداية فإنه يلزم ملاحظة أن التطرف الدينى المرتبط ب الفضاء الإسلامى فى اللحظة الراهنة، بات أحد المكونات الرئيسية للصراع الدولى فى سبيل بناء عالم جديد. حيث لم تعد التنظيمات والتيارات التى تتبنى الفكر المتطرف وتؤسس له، تقتصر على محاولة الترويج الدعوى لأفكارها أو حتى ممارسة نشاط إرهابى محدود فى مواجهة أصحاب الأفكار المخالفة، بل انتقلت تلك التنظيمات إلى طرح مشاريع سياسية كبرى، تعيد رسم خرائط الفضاء الإسلامى بأسره، وتعريف سياساته من خلال محاولة تكريس صراع وجودى مقدس مع الآخر غير التابع لها أيا كان. وليس ما نشهده فى سوريا والعراق حاليا، من ممارسات تطهير دينى ومذهبى، بدعم من بعض حكومات المنطقة، إلا المرحلة الأكثر تطورا، حتى اللحظة، من حضور هذا التطرف الدينى الذى يسعى إلى أن يحيل الدين والمذهب، إلى عنصرية سياسية منغلقة، هدفها النفى والإبادة، وليس التعايش والتعارف مع الناس جميعا. وفى المقابل، نلحظ أن القوى الرئيسية الفاعلة فى الشرق الأوسط، تحاول استغلال تصاعد التطرف الدينى فى إطار صراعها على المنطقة، ومحاولات التغلغل فيها. وإذا كان جليا ما تقوم به كل من تركيا وإيران من محاولات استغلال المشاريع السياسية المنتحلة قداسة دينية، أو ما ينتج عنها من ظلم وإقصاء لجماعات معينة، كأداة لتعظيم نفوذهما السياسى، أو ما تقوم به الولاياتالمتحدة وحلفاؤها بالمثل من استغلالهما لتكريس تفتت المنطقة وإضعافها وتهميشها، فإنه حتى قوى كبرى أخرى مثل روسيا تحاول العودة مجددا إلى المنطقة لا تُغفل بدورها استغلال التطرف وتداعياته من منظور طائفى كأحد أدوات النفوذ والتأثير. وأعلن وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف، خلال استقباله فى 29 أكتوبر الماضى، البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية، أن إحدى مهمات السياسة الخارجية الروسية تتمثل فى الحيلولة دون الانتقاص من مصالح المسيحيين ، فى الشرق الأوسط. فى هذا الإطار، يبدو أن دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسى لإصلاح الخطاب الدينى وجهده لتكريس مفهوم الوطنية الجامعة لكل المتمايزين دينيا، سيواجهان بسياقات داخلية وإقليمية، وما وراء إقليمية، تعزز، قصدا وعن غير قصد، نوازع التطرف بأكثر مما تدعم إصلاحا دينيا وسياسيا حقيقيا يضمن عدم التمييز فى إطار المواطنة. ويفرض ذلك ضرورة تجاوز مجرد مواجهة مظاهر التطرف الدينى، إلى مراجعة المعضلة الرئيسية التى تتيح تأسيسه وإشاعته، ألا وهى محاولة احتكار السلطة على النص وعلى عقول المؤمنين به بالتبعية، تلك السلطة التى كان تكريسها، تاريخيا، إحدى الأدوات الرئيسية لممارسة السياسة فى المنطقة. وتتضمن محاولات الاحتكار تلك مغالطتين أساسيتين: أولاهما، تتعلق بجوهر الإيمان ذاته، حيث تُرك حسبها، للفرد أن يُحدد فقط مدى إيمانه زاد أم نقص، بينما تحتكر سلطة اجتماعية خارجة عن الفرد تحديد مضمون هذا الإيمان ومحتواه من أفكار وعقائد وقيم، بل وتشريعات وقوانين. وفى ذلك تعارض رئيسى مع جوهر الإيمان كفعل فردى، يرتبط فى مجمله وليس بعضه فقط، بالمسؤولية الفردية المطلقة، التى لا يجوز توكيلها أو التخلى عنها لأى سلطة خارجة عن الدائرة الفردية للإنسان. أما ثانيتهما فتتعلق بطبيعة المعرفة التى يمكن للإنسان أن يتوصل إليها من النص الدينى، حيث جرى تقليديا الترويج لأن عقل الإنسان العادى عاجز بمفرده عن التوصل إلى تلك المعرفة بشكل صحيح تماما، وأن تلك المعرفة بالتالى مرهونة بما ينتجه الخواص ممن يتولون هذه المهمة نيابة عن العامة. ومع ما قد يكون لذلك من قدر من الصحة ينطبق على نسبية المعرفة الإنسانية وقصورها عامة، فإن هذا القصور وتلك النسبية ذاتهما ينصرفان أيضا إلى ما ينتجه هؤلاء الخواص من معرفة تبقى، فى التحليل الأخير، بشرية لا يصح حملها بِعدها هى فقط الدين وصحيحه الواجب اتباعه دون تفكر أو تدبر. وبالتالى، فإنه إذا كان إصلاح محتوى الخطاب الدينى شرطا أساسيا لمكافحة التطرف، فإن ثورة تحرير لهذا الخطاب تنزع عنه وعمن ينتجه صفة القداسة الموهومة، وتستعيد للعقل الفردى حريته فى ما يعتنق ويتبع ومسؤوليته عنهما، دون انسحاق أمام أى سلطة تحاول احتكار النص الدينى، ودون السماح بممارسة أى سلطة تدعى القداسة لها أو لما تطرح فى الفضاء العام، تُعدّ شرطا لا يقل ضرورة وأهمية لمواجهة الطروحات المتطرفة التى لن تفتأ هى الأخرى تحاول طرح نفسها، إذا استمر منطق احتكار السلطة على النص ، بِعدّها هى الدين وما عداها هو الكُفر . وقديما قال أبو العلاء المعرى فى نفى السلطة الدينية: أيُّها الغِرُّ إنْ خُصِصْتَ بعَقلٍ فاتّبعْهُ/ فكلّ عقلٍ نبى ، إلا أن عقلانية أبى العلاء وفرديته لم ينتصرا وانتصر التطرف.