عندما تفاجئنا زيادة أسعار النفط فى السوق العالمية تبدأ الحكومة فى عزف مارش «ترشيد دعم الطاقة»، وأن هذا الدعم يجب أن يذهب إلى مستحقيه فقط. وهى فى حقيقة الأمر إنما تلجأ إلى عزف هذا المارش الحزين لتغطى على كثير من أوجه الفشل، الذى يعانيه الجهاز الإدارى للدولة، بما فيه الإدارة الاقتصادية. وقد قبلت الناس «حبا فى رئيس الجمهورية» وليس «ثقة» فى الحكومة بإجراءات قاسية لتخفيض دعم الطاقة، وزيادة أسعار الوقود، بما أدى إلى زيادة تكاليف الإنتاج والنقل والاستهلاك المنزلى، لكن الحكومة تصمت عندما تنخفض الأسعار العالمية! الآن ومنذ منتصف العام الماضى، أى تحديدا منذ بداية السنة المالية الحالية، انخفضت أسعار البترول والغاز ومواد الوقود على المستوى العالمى. وهذا يعنى بشرة خير للموازنة الجديدة 2014/2015، التى مضى عليها نصف العام حتى الآن. وكانت الحكومة قد قدرت متوسط الأسعار فى الميزانية الجديدة بواقع 105 دولارات للبرميل من النفط، وبأكثر من 4.5 دولار للمليون وحدة حرارية من الغاز. وحيث إن هذه التقديرات أعلى بنسبة 40% من متوسط الأسعار خلال النصف الثانى من عام 2014 فإنه يكون من الطبيعى أن نتوقع وفورات فى الميزانية تقابل هذا الانخفاض. والناس لا تريد توزيع هذه الوفورات فى صورة كوبونات نقدية أو هدايا من العيش الفينو والكافيار، وإنما تريد استثمارات جديدة توفر فرص عمل لملايين العاطلين من أصحاب الأسر أو من الشباب الباحثين عن عمل، وأن تقلل الحكومة استدانتها من البنوك. إن الوفورات الناجمة عن انخفاض أسعار النفط الخام والغاز والوقود المستورد بنسبة 41% من شأنها أن تؤدى إلى تخفيض العجز الكلى فى الموازنة العامة للدولة بنسبة 17% تقريبا، مقارنة بالرقم المستهدف وهو 240 مليار جنيه تقريبا. وبالتالى يكون العجز المتوقع بعد الوفورات فى حدود 200 مليار جنيه، أى ما يعادل 8.3% من الناتج المحلى بدلا من العجز المتوقع فى الميزانية بقيمة 240 مليار جنيه، بما يعادل 10% من الناتج قبل الوفورات. لكن وزارة المالية فاجأتنا فى الأيام الأخيرة بتقرير يشير إلى أن الأمور تسير بالعكس، وأن العجز فى الموازنة زاد بدلا من أن ينخفض خلال الشهور الخمسة الأولى من السنة المالية! وأظهرت إحصاءات المالية الرسمية عن الفترة من بداية السنة المالية الجديدة وحتى نهاية شهر نوفمبر الماضى 5 أشهر أن عجز الميزانية العامة للدولة ارتفع بنسبة 39%، عما كان عليه فى الفترة المقابلة من السنة المالية السابقة، ليبلغ نحو 108 مليارات جنيه مقارنة بنحو 66 مليار جنيه. كذك زادت نسبة العجز إلى 4.6% من الناتج المحلى مقارنة ب3.3% ، وذلك على الرغم من أن معدل النمو الاقتصادى التقديرى فى الربع الأول من السنة المالية الحالية يبلغ ما يقرب من 7 أمثال معدل النمو فى الربع الأول من السنة المالية الماضية. كانت الوزارة قد وضعت استراتيجية لتخفيض العجز فى الموازنة العامة للدولة من 13.7% من الناتج المحلى إلى ما يتراوح بين 10- 10.5% فى السنة المالية الحالية. وقد أخذت تقديرات الميزانية فى اعتبارها تراجع المنح الخارجية باعتبار أن ما حصلت عليه مصر فى الأعوام الماضية كان بمثابة إيرادات استثنائية ، كما أخذت فى اعتبارها أيضا تمويل المرحلة الأولى من الاستحقاقات الدستورية فى ما يتعلق بزيادة الإنفاق على التعليم والصحة والبحث العلمى، إضافة إلى تمويل الزيادات المستحقة للمعلمين والأطباء وغيرهم. نحن إذن أمام استراتيجية واضحة كما تقول وزارة المالية نفسها لتخفيض العجز المالى، من خلال إصلاحات ضريبية بدأ تنفيذها فعلا وتخفيض دعم الطاقة وغيرها من بنود ترشيد الإنفاق. وقد حصلت وزارة المالية على هدية من السماء بانخفاض أسعار الطاقة المستوردة خلال النصف الثانى من عام 2014، وهو ما يعنى انخفاض تكلفة دعم الطاقة وتكلفة استيراد البترول ومشتقاته. ومن ثم فإن الباحث فى المالية العامة يتوقع أن ينعكس أثر انخفاض أسعار البترول إيجابيا على الميزانية والميزان التجارى والاحتياطى النقدى وغيرها. وعلى ضوء البيانات الكئيبة التى أعلنتها وزارة المالية، سيكون تخفيض العجز فى نهاية السنة المالية إلى 10% من الناتج المحلى، أو إلى 8.3% فقط، إذا أخذنا فى الاعتبار وفورات انخفاض أسعار الطاقة، هدفا صعبا. وفى هذه الحالة ستشتد الضغوط على القيادة السياسية لمحاولة توفير موارد إضافية استثنائية، يتم ضخها فى الميزانية من أجل تقليص العجز. وفى هذا السياق فإن وزارة المالية مطالبة بتوضيح حقيقة الأمر، وبيان الأسباب التى أدت إلى اتساع نطاق العجز المالى، على خلاف توقعات الميزانية. ويتعين على الحكومة الحالية أن تعرف أنها تستمد قوتها حتى الآن من الثقة الشعبية الفائقة فى الرئيس عبد الفتاح السيسى. لكن هذه الحكومة لا يجب أن تبالغ فى الاعتماد على هذه الثقة، لأن فشلها فى تحقيق ما قررته لنفسها، مثل تخفيض العجز فى الميزانية، سيجعلها عبئا على الرئيس، وسيدعو إلى إعادة الاقتصاد إلى غرفة عمليات كئيبة لمحاولة إنعاشه من جديد.