أدى اعتماد أغلب دول منطقة الشرق الأوسط، شبه المطلق على ما تمتلكه من عناصر أولية للقوة ترتبط بالموارد الطبيعية أو الموقع الجغرافى، وما شابه ذلك من موارد لم يُحدث فيها الإبداع البشرى أثرا، وفشل هذه الدول فى تطوير مقومات أكثر رقيا للقوة من قبيل اقتصاديات التصنيع المتطورة أو مجتمعات المعرفة، إلى تراجع أهمية المنطقة على سلم القوة والمكانة الدوليين. إلا أن خطرا أكبر بات يتهدد دول المنطقة فى ظل احتمالات التهميش المتزايد لأهمية ما تمتلكه من مقومات أولية للقوة، فى ظل بروز بدائل أخرى تتيح للأقطاب الاقتصادية العالمية التحرر من الاعتماد على الشرق الأوسط. لعل أبرز تلك البدائل فى اللحظة الراهنة هو ما بات يُعرف ب«ثورة» النفط والغاز الصخريين، لكن تحولا آخر أعظم خطرا آخذ فى التبلور بشكل متسارع، ألا وهو زيادة إمكانية استغلال منطقة القطب الشمالى اقتصاديا. ظل القطب الشمالى الذى يشغل نحو 8% من مساحة الكرة الأرضية، منطقة بعيدة عن أى نشاط تنموى كثيف عبر التاريخ بأسره، إلا أن تصاعد ظاهرة ذوبان الجليد فى المحيط المتجمد الشمالى، الذى تقلصت مساحته بنحو 40% بين عامى 1979 و2013، زادت من إمكانية استكشاف المنطقة وسبر أغوار ثرواتها واستغلالها. وبحسب أحدث تقييم لموارد المنطقة أجرته هيئة المسح الجيولوجى الأمريكى فى عام 2008، فإن القطب الشمالى يحتوى على نحو ربع موارد الكرة الأرضية من الوقود الأحفورى غير المكتشف والقابل للاستغلال. وحسب التقييم فإن المنطقة تحتوى على نحو 13% من موارد الأرض النفطية، و30% من موارد الغاز الطبيعى، و20% من موارد الغاز الطبيعى المسال. وتضم المنطقة حاليا نحو 60 حقلا من حقول النفط والغاز كبيرة الحجم، 43 منها يقع فى روسيا، و11 فى كندا، و6 فى ولاية ألاسكاالأمريكية، وواحد فى النرويج. وبالرغم من أن جهود استكشاف تلك الموارد تراجعت مع ثورة النفط والغاز الصخريين، فإن تزايد الطلب العالمى على موارد الطاقة يرجح أن يُسرع تلك الجهود خلال العقدين المقبلين. ومن شأن التوسع فى استغلال تلك الموارد الضخمة من النفط والغاز، إضافة إلى تزايد إنتاج النفط والغاز الصخريين، مع تطور تقنيات استخراجهما، أن يقوضا هيمنة أوبك ، على سوق النفط من جهة، وأن ينهيا عصر أسعار النفط المرتفعة من جهة أخرى، حيث يتوقع أن يسيطر على سوق الوقود الأحفورى التنافس بين المنتجين للحفاظ على حصصهم فى ظل الوفورات المتوقعة فى الإنتاج، وليس السعى لزيادة الأسعار. وفى سياق التنافس على الحصص، يبدو أن القطب الشمالى يتمتع بميزة نسبية هامة هى قرب مناطق الإنتاج فيه من مناطق الاستهلاك الرئيسية، وهو الأثر الذى سيتعاظم مع ازدياد القدرة على استغلال المنطقة فى النقل البحرى، وهو المتغير الثانى الذى يتوقع له أن يحد كثيرا من أهمية الشرق الأوسط. ولفت ذوبان كامل للجليد، لفترة قصيرة خلال صيف عام 2007، فى الممر البحرى الشمالى المتاخم لروسيا الذى يربط المحيطين الهادى والأطلنطى، الانتباه الدولى إلى إمكانية أن يصبح هذا الطريق ممرا بحريا دوليا موسميا خلال أشهر الصيف. ومنذ ذلك الحين، ارتفع عدد سفن الشحن التى استخدمت هذا الطريق فى رحلات دولية من نحو 5 سفن عام 2009، إلى 71 سفينة فى عام 2013. وبالرغم من أن هذا العدد لا يقارن بنحو 17 ألف سفينة شحن تعبر قناة السويس سنويا، فإن تضاعف عدد السفن التى تستخدم الممر البحرى الشمالى 14 مرة خلال 4 سنوات يعكس الاهتمام الدولى المتزايد بهذا الطريق، خصوصا أن رحلة بحرية من ميناء شنغهاى الصينى حتى ميناء هامبورج الألمانى عبره توفر نحو 30% من المسافة التى تقطعها رحلة مماثلة عبر قناة السويس، فضلا عن أن استخدامه يتيح تفادى مناطق القراصنة فى مضيق مالقا وفى المياه المتاخمة لمنطقة القرن الإفريقى. وإضافة لما توفره ميزة القصر النسبى للمسافة من إمكانية اختصار زمن الرحلات البحرية، فإنها تتيح للسفن كذلك إمكانية الإبحار ببطء، وبالتالى خفض كميات الوقود المستهلكة. وتمثل المخاطر المرتبطة بالتحولات المفاجئة للطقس، حتى خلال فصل الصيف، وبكتل الجليد الطافية، العائق الرئيسى أمام الاستخدام الكثيف لهذا الممر البحرى، ونظيره الغربى المتاخم للسواحل الشمالية لكل من ألاسكاوكندا. لكن تقرير لجنة الأممالمتحدة للتغير المناخى فى عام 2013، توقع أن يشهد المحيط المتجمد الشمالى ذوبانا تاما للجليد خلال شهر سبتمبر قبل منتصف هذا القرن، إذا ما تواصل انبعاث الغازات الدفيئة عالميا، مما يعنى أن تأثير تلك المخاطر قد يتراجع جذريا خلال نحو 30 عاما. بعبارة أخرى، فإن صناعة النقل البحرى وكل ما يرتبط بها من صناعة لوجستية قد تشهد انقلابا كبيرا، حتى لو كان موسميا، بعيدا عن الشرق الأوسط خلال الأمد المنظور. وتأهبا لمثل هذا الانقلاب تستثمر روسيا حاليا عشرات المليارات من الدولارات فى إنشاء عدد من الموانى وتجهيزات البنية الأساسية على طول هذا الممر البحرى الشمالى. يُعد سيناريو تطوير استغلال القطب الشمالى أحد سيناريوهات عدة ترجح تآكل ما بقى من أهمية الشرق الأوسط. وبالتالى، فإنه من دون سعى دول الشرق الأوسط سريعا وحثيثا إلى امتلاك مقومات أكثر رقيا وتطورا للقوة، وتوفير شروط التعايش السلمى العادل والإيجابى داخل حدودها، وفى ما بينها، وتأسيس دول وطنية جامعة حقة يمكنها التغلب على مخاطر الانقسامات الإثنية، فإن التهميش خارج كل سيرورات التطور الإنسانى المعاصرة سيكون هو السيناريو المرجح لمستقبل المنطقة وشعوبها خلال أمد قد لا يتجاوز نصف قرن من الزمان.