فى ديسمبر 1966 رحل الفنان والناقد والمترجم رمسيس يونان، بعد رحلة قصيرة فى الحياة، إذ كان ميلاده فى عام 1913، ولكنها طويلة وعريضة ومؤثرة فى الفن والنقد والثقافة والمعاناة. كان فنانا قلقا منذ أن شارك رفاقه جورج حنين وأنور كامل وألبير قصيرى وفؤاد كامل وجويس منصور وكامل التلمسانى وغيرهم، فى إنشاء جماعة الخبز والحرية عام 1938، ثم أصدروا مجلتهم «التطور»، التى قادت مفهوما للفن ظل تأثيره ممتدًا حتى هذه اللحظة. وكان كتابه الصغير الحجم، الكبير القيمة، والمبكّر غاية الرسام العصرى ، الذى صدر عام 1938 بيانا نقديا لما يريده هؤلاء الفنانون، بعد التطورات العلمية التى حدثت فى النصف الأول من القرن العشرين، وتطور ذائقة الجمهور والفنانين على السواء، واستحداث طرق للرسم تكاد تكون انقلابا فى عالم الفن. وفى 29 ديسمبر، أى بعد رحيل يونان مباشرة، كتب الشاعر والرسام والفنان صلاح جاهين، فى بابه الأسبوعى بمجلة صباح الخير ، الذى اتخذ له عنوانا طريفا وخفيفا فى الفاضية والمليانة نعيًا لهذا الفنان بدأه ب مات عمكم رمسيس يونان يا ولاد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، كان رائدا من رواد الفن فى بلادنا، واشترك فى كثير من الموجات الفكرية الجريئة التى هبت على مصر فألهبت دماءها، وإن لم تمنحها دائما جديدا من الدماء.. ولد فى المنيا عام 1913، ودخل الفنون الجميلة فى القاهرة عام 1929، ثم اشتغل بالتدريس فى طنطا وبورسعيد والزقازيق ووضع كتابًا مبكرًا فى حياته، وكان دائم القراءة، دائم التطلع إلى التيارات الفكرية العالمية متتبعا لها.. وخلال الحرب العالمية الثانية استقر فى القاهرة رئيسًا لتحرير (المجلة الجديدة)، ثم تفرغ للتصوير فساهم فى تأسيس المدرسة السيريالية المصرية، كما ترجم (كاليجولا) لألبير كامى، و(فصل للجحيم) لأرتير رامبو، ثم انتقل إلى فرنسا سكرتيرًا لتحرير القسم العربى بالإذاعة الفرنسية حتى أزمة السويس، فاستقال وعاد إلى القاهرة كاتبا وناقدا ورساما تجريديا، ثم حصل على منحة التفرغ من وزارة الثقافة منذ عام 1960 حتى توفاه الله . ومن الطبيعى أن نقدّر هذا النعى الذى كتبه العظيم صلاح جاهين ليونان، رغم اختلاف المدرستين الفنيتين اللتين كان ينتمى الفنانان إليهما، إنه اختلاف عميق، فصلاح جاهين هو الواضح والمشتبك مع كل الظواهر الاجتماعية والسياسية بطريقة مباشرة، والذى غنّى للعهد الجديد -آنذاك- صادقا ومبشّرا بثماره الوطنية والسياسية والاقتصادية العظيمة، أما رمسيس يونان فهو الفنان الذى نهل من الفنون الغربية أكثرها، وتأثر بها مع رفاقه، وراحت رسوماته تفجّر عالم الأحلام الخفى، بعيدًا عن ملامسة الواقع الحى الذى ينشده الجميع. لذلك كانت غربة يونان الفكرية والفنية فى وطنه أكثر ألما بالنسبة إليه من غربته الجسدية فى فرنسا، حيث تم طرده -تقريبا- من القسم العربى بالإذاعة الفرنسية، لأنه ينتمى إلى البلاد التى عادتها فرنسا، ووضعتها محل العقاب، لأن هذه البلاد قررت أن تستكمل طريق التحرير حتى نهايته، ولم يستجب يونان -فى فرنسا- لكل الضغوط التى وقعت عليه، من أجل أن يشارك فى معاداة بلاده، فعاد مضطرا، بعد أن تم فصله، ونشرت صحيفة نيويورك تايمز خبرًا بطرد يونان وثلاثة من زملائه المصريين والعرب من الإذاعة الفرنسية، وقرارًا بطردهم من الأراضى الفرنسية لأنهم رفضوا إذاعة بيانات ومواد ضد مصر، وكان الدكتور والمثقف والمترجم ثروت عكاشة هو الملحق العسكرى المصرى فى باريس، وتدخل من أجل حل الأزمة وإلغاء قرار الإبعاد عن الأراضى الفرنسية، ولكن دون جدوى. وبعد عودته هو ورفاقه تم تعيين زملائه فى هيئة الاستعلامات إلا هو، وذلك لأن ملفه القديم فى الأمن العام عاق عملية تعيينه. هو الذى رفض أن يعادى بلاده فى فرنسا، وكان ذلك ممكنا ويسيرا ومربحا أيضا. وعاش يونان مرحلة صعبة من حياته دون دخل ثابت، بعد أن نفدت كل مدخراته التى أتى بها من فرنسا، واضطر إلى أن يعمل بالترجمة تحت ضغط الحاجة، ولكن بين هذه الترجمات التى نقلها إلى العربية فى تلك الظروف كان كتاب الأراجوز لأحد الفنانين الروس العظام. وهنا لا بد أن نتذكر يوسف السباعى الذى انتشل يونان من هذه الورطة، وعيّنه مديرا للشؤون الفنية فى المؤتمر الآسيوى الإفريقى، وكان دوره الأساسى هو الترجمة ومراجعة الترجمة التى يقوم بها آخرون، وكان هذا الحل إنقاذًا ليونان من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التى تعرّض لها فى تلك المحنة، وظل هذا الأمر هكذا حتى أنشأ ثروت عكاشة -فى عهد استوزاره- عام 1960 نظام التفرغ بوزارة الثقافة، وحصل يونان على منحة وزارة الثقافة، ليتفرغ لفنه ونقده، ويشهد كثيرون أن المؤمرات لم تكفّ عن محاولة حرمان يونان من هذا التفرغ، لمجرد أن رمسيس يونان فنان مختلف، وكان البعض ينظر إليه من زاوية معادية، فحاولوا بإصرار إلغاء منحته وقطع عيشه، وسيذكر التاريخ أن العقاد شخصيا رفض منحه هو وتحية حليم وآدم حنين وراتب صديق عام 1961 التفرغ، وهدّد الوزير باستقالته لو وافقت الوزارة على منحهم التفرغ، وللأسف استجاب عكاشة لتهديد العقاد مجاملة له، ولكنّ آخرين تدخلوا فى هذا الأمر لإعادة قرار منحة التفرغ، وبالفعل تم منحه إياها، ولكن بوصفه مترجما لا بوصفه فنانا. ورحل يونان، ورحلت معه مأساته الاجتماعية، ولكن سيظل فنه وقراءاته النقدية لأعظم الفنانين فى العالم مثل ديلاكروا وبيكاسو وآخرين، وكذلك كتاباته عن فنانين مصريين من طراز محمود سعيد وناجى ومحمد محمود خليل وغيرهم، وحسنا فعلت وزارة الثقافة، فأصدرت مجلدا ضخما يحتوى معظم دراساته فى الفن، وبعض ترجماته، وقدّم له الدكتور لويس عوض، متحدثًا عن يونان ومدرسته ومعاناته ورفاقه، وكذلك أصدر الدكتور الناقد بدر الدين أبو غازى كاتالوجا يحمل لوحات يونان، مع دراسة نقدية وقراءة لمختلف لوحات يونان.