نبهنى صديقى العزيز الكاتب الكبير بهاء طاهر إلى هذه الرواية التى لم أسمع باسم كاتبها، ولم أقرأ له شيئا من قبل: رواية «الذى لا يحب جمال عبد الناصر» للكاتب العمانى الشاب سليمان المعمرى، وهى روايته الأولى، بعد ثلاث مجموعات قصصية فازت إحداها «الأشياء أقرب مما تبدو فى المرآة» بجائزة يوسف إدريس للقصة القصيرة عام 2007. وقد شاقنى عنوانها الغريب واللافت معا، لأنه يكشف عن حس تهكمى، لا تلبث الرواية أن تشبع توقعات القارئ بشأنه، فالرواية مبنية بشكل يدخل مع القارئ من البداية فى مجموعة من الألعاب السردية والتأويلية التى تكشف أوراق اللعبة السردية نفسها، وتدخل القارئ فى قلب عملية تشييدها أو بالأحرى تفكيكها، لأن النص مولع بتعرية مجموعة من الافتراضات المضمرة فى السرد عادة واللعب بها. وتبدأ هذه اللعبة تمشيا مع العنوان المثير، من تغييرها لبعض المواضعات المتعارف عليها فى عمليات القص، بدءا من استخدام موجز الكراهية بدلا من كلمة الفهرس التقليدية، والذى يسرد تحته عناوين فصول الرواية التى تتكون من 15 فصلا، يحمل أولها عنوان الراوى العليم: زرنى يا عدوى ، الذى يكشف عن لعبة الراوى العليم الذى يسيطر على السرد أو بالأحرى يتلاعب به، ويعود آخرها إلى تنويع آخر على العنوان الافتتاحى نفسه، لأنه بعنوان الراوى العليم: أعرفك جيدا ، ثم تنتقل الرواية بعد ذلك إلى تنويه قد لا يكون ضروريا يقلب فيه منذ العنوان نفسه لعبة التنويهات، فيقرر أن شخصيات وأحداث هذه الرواية من نسج الخيال، فإذا تشابهت مع شخصيات أو أحداث حقيقية فى الواقع، فذلك لا يعدو كونه مصادفة قدرية محضة ، وهو تنويه يعزز، كما تضمر تلك التنويهات عادة، من واقعية الرواية ومن تطابق أحداثها مع الواقع، وهو الأمر الذى يتأكد من خلاله الجانب الذى يوشك أن يكون توثيقيا حينما نعود إلى جذور قصة بطلها بسيونى سلطان الفقى، الذى لا يحب جمال عبد الناصر، فهو من عائلة الفقى الشهيرة فى كمشيش، وتاريخها المعروف مع لجنة تصفية الإقطاع، وما جرى لمناوئ تلك العائلة، صلاح حسين مقلد، وهو شخصية حقيقية وزوج شاهندة مقلد الناشطة السياسية المعروفة. وليس هذا هو الجانب الواقعى إلى حد التوثيقية فى هذه الرواية، لأنه باستثناء لعبة الراوى العليم الافتتاحية، وتلك اللمسة الفانتازية التى تتيح لجمال عبد الناصر أن ينهض من قبره بعد 42 عاما من رحيله، وأن يزور بسيونى سلطان، أشد كارهيه فى هذا العالم، والذى يعمل مصححا لغويا فى جريدة المساء العمانية فى مسقط، فيسقط بسيونى مغشيا عليه، ليبقى فى غيبوبته التى يستحقها طوال الرواية. أقول باستثناء هذه اللعبة الافتتاحية، فإن السرد كله وسياقاته بعد عامين من اندلاع الربيع العربى، شديد الواقعية، بل يتعمد الاشتباك المستمر مع وقائع وأحداث ومؤشرات يستطيع القارئ، والعمانى منه خاصة، أن يتعرف عليها فى أسماء الكتاب والأعلام وغيرهم من الشخصيات والأحداث العمانية حتى النخاع، بل إننى أزعم أن اللعبة الفانتازية نفسها ليست إلا واحدة من أدوات تأكيد واقعية النص، وتعزيز وثائقيته، لأن الربيع العربى رد بطريقته الخاصة الروح إلى جمال عبد الناصر بعد أن كان قد مات وشبع موتا، وأحال القضايا التى كرس لها حياته، خصوصا قضية العدالة الاجتماعية، إلى أحد أهم شعاراته. ولأن للشكل الفنى فى أى عمل روائى محتواه فإن تلك اللعبة الروائية التى يبدأ بها سليمان المعمرى روايته تفتح العمل على جدل عربى واسع بين الماضى التليد الذى يشكله زمن جمال عبد الناصر، وهو الزمن الذى يكرهه البطل حد التحريم، لأن أسرته عانت منه، وفقد هو بسبب إصلاحه الزراعى نصف أرضه، والحاضر الذى ينتصر له هذا الكاره لعبد الناصر وسيرته، وهو زمن الإخوان، أو زمن مرسى الذى انتخبه بسيونى، وأجبر ابنه على انتخابه هو الآخر، وعلى قطع علاقته بأعز أصدقائه، لأنه رفض انتخاب مرسى. فالرواية تقدم لنا من خلال سردها الذى يسجل مسيرة هذا البطل الذى أمضى ثلاثين عاما من حياته فى عمان، نموذجا للإخوانى الذى عاش على الكراهية، أكثر مما عاش على أى مشروع إيجابى. وتستخدم السرد التهكمى فى تعرية ما تنطوى عليه شخصيته من تناقضات، وكشف سلبيته وضيق أفقه، وانغلاق مشروعه الفكرى أو السياسى الذى ينهض على مزيج غريب من الجهل والتعصب. وقد كان للإخوان بالفعل تنظيمهم النشط والواسع فى عمان، وعاد كثير منهم للمشاركة فى السلطة فور انتخاب مرسى وتسلم الإخوان الحكم. ومن خلال شخصية بسيونى سلطان تلك، والتى تحرص الرواية بعد أن غيبتها إثر صدمة زيارة عبد الناصر الفانتازية له، فى طوايا غيبوبتها التى لم تفق منها، على أن تعكس لنا مختلف أبعاد تلك الشخصية الإخوانية كما تتبدى على مرايا كل من عرفه، وتحرص فى عرضها تلك المرايا على قدر كبير من التوازن الكاشف عن حب الكاتب لشخصيته برغم كل تناقضاتها: بدءا من الابن: جار النبى بسيونى، مرورا بعدد من زملاء العمل من رئيس القسم الدينى داود الحراصى أقربهم إليه، إلى المصحح السودانى، ورئيس القسم الثقافى ورئيس قسم المحليات وحتى رئيس التحرير نفسه، وصولا إلى أقربهم إليه مثل زينب العجمى، التى فكر بسيونى فى الزواج بها، دون أن تغفل بعض من ناصبهم العداء مثل المصحح التونسى عبد المجيد زروقى. وهى مرايا يستخدم فيها الكاتب تعدد اللغات بالمعنى الروائى الذى ينطوى على تعدد الرؤى واختلاف المنظور السردى، وهو الأمر الذى يرهف من حدة أهجيتها للنموذج الإخوانى الذى يبنى صورته ومشروعه معا على مزيج من الكذب والجهل، فلا يدرك كثير من الشخصيات العمانية إذا ما كان يشلخ بالعمانى أى يفشر بالمصرى أو يقول صدقا، والواقع أن أحد أسباب قوة السرد ومتعته فى هذه الرواية هو تمكن الكاتب من عدد من العاميات العربية، بدءا بالعامية المصرية مرورا بالعاميتين السودانية والتونسية، وصولا إلى العامية العمانية بالطبع، فالرواية تقدم لنا من خلال تنوع خلفيات محررى الجريدة نسخة مصغرة من الأمة العربية فى انقسامها وتشرذمها وعدم اتفاقها على شىء (ص35). لكنها نجحت فى أن تكشف لنا من خلالهم عن أهم كشوفها من حيث العمق والرؤية معا، وهو ما أود دعوته ببنية المشاعر العربية العميقة، وهو الأمر الذى سأفصل الحديث عنه فى الأسبوع القادم.