حين دعا الفيلسوف والروائي الفرنسي الشهير "برتراند راسل" عدد من علماء العالم علي رأسهم "ألبرت أينشتاين" عام 1955 لتوقيع مبادرة لمواجهة خطر التسليح النووي، كان عالم الفيسيولوجيا والجينيات الأمريكي "هيرمان جوزيف مولر" فى طليعة ذمرة من خيرة العقول في العالم لتلبية النداء لمقاومة الخطر الأكبر علي الجنس البشري في القرن العشرين وربما لقرون عديدة. لم يكن "هيرمان مولر" مجرد عالم جينات بل هو أحد أهم علماء الوراثة اللذين قاموا بخدمات جليلة للبشرية في هذا المجال، نال عن إحداها جائزة نوبل في الطب عام 1946، وربما لم يكن مجرد عالم يسعي لتسجيل اكتشاف ما بإسمه أو لحصد جائزة علمية مرموقة من هنا أو هناك، كان إنسانًا في المستوي الأول ، مهمومًا بمعاناة البشر، و مناضل سياسي يعمل ضد القانون السائد في بلاده ان اقتضي الأمر. حينما تطالع الصور الأرشيفية ل"هيرمان مولر"، سوف يخترقك هذا الإحساس بالجدية والشغف و الذكاء البراق، لكنها ملامح جادة ذات نظرة متحفزة، إنها ملامح لشخص شرس لكنها الشراسة التي تأتي في مواجهة الشر، هكذا يثبت تاريخ الرجل. ربما وصلته الرسالة في ذلك الزمان قاطعة الآلاف من الأميال عبر أوربا مرورًا بالمحيط الأطلسي، حتي مدينة "نيويورك" حيث يعيش، وربما ردد لنفسه عبارة "إنها لفرصة جيدة كي تكفر عن ذنوبك يا هيرمان". بالطبع كان يعاني من نوبات تأنيب الضمير وربما كانت الذكريات عن والده الذي رباه علي احترام حق البشر في الحياة جيدًا، أو كانت طفولته النقية في الريف الأمريكي وسط الطبيعة البكر تتوارد إلي ذهنه وتعذبه أيضًا، كيف للبشر أن يتقاتلوا إلي هذا المستوي؟ وكيف لعالم مثلي وهب الذكاء وحسن التدبر، أن يقع في فخ "مانهاتن"؟ باتأكيد لم يكن هيرمان ليعرف أن مشروع مانهاتن كان مخصصًا لإنتاج أول سلاح دمار شامل عرفته البشرية، كان الأمر يجري بمنتهي السرية، وكانت الولاياتالمتحدة و ألمانيا يشتبكان في صراع محتدم لإنتاج أول قنبلة نووية، كلا الدولتين كانتا تعرفان أن أي منهما سوف ينتج السلاح الذري أولًا سوف يكسب الحرب بلا جدال، في هذا الوقت كان "هيرمان جيه مولر" يستدعي كمستشار علمي للمشروع دون أن يتعرض للفكرة المدمرة التي تنوي الولاياتالمتحدة صكها وإلقائها علي "هيروشيما". لم يكن هيرمان وحده هو الذي ضُلل أو استخدمت أفكاره في عكس سياقها، ففي الجانب الآخر المعادي، كان يجلس الألماني العجوز"أينشتاين" أكبر عباقرة القرن في منزله ينتظر ما سوف تفسر عنه نوايا البشر السيئة، في استغلال نظريات الكم والنسبية الخاصة به، كان الصراع علي أشده وكلاهما"أينشتاين" وهيرمان" كانا يشعران بأن ثمرة عقليهما تستغل لتدمير بشر آخرين ربما يعيشون في الطرف الآخر من الأرض. في 1919 كان هيرمان يجري بعض التجارب المتمحورة حول تأثير آشعة "إكس" علي الجينات، كان هو أول من أشار إلي عملية الطفرة الجينية قيبل ذلك بسنوات، و كان يطمح من خلال أبحاثه تلك إلي أحد أمرين، أولهما لتحسين النسل البشري من خلال الطفرات وتعديل الجينات، وثانيهما أن يثبت التأثير المدمر للإشعاع علي الأجيال القادمة. الطفرة هي بعض التحولات الكيميائية، التي تحدث في المواد المسئولة عن إكساب الصفات الوراثية للكائن الحي، من أول لون البشرة و العينين، إلي كافة الوظائف الحيوية في الكائنات، حيث لاحظ أن تعرض الجينات الخاصة بذبابة ال"دروسوفيلا" إلي بعض التحولات التي تنتج صفات وراثية جديدة لم تكن موجودة في هذا النوع من قبل، عند تعرضها لآشعة إكس. يحدث ذلك أثناء عمليات إنتاج البويضة والحيوان المنوي في عملي التزاوج، مما ينتج عنه نسل جديد بتحول جديد في بعض الصفات الوراثية. كانت هناك أبحاث سابقة ل"هيرمان" تثبت أن الطفرات في الجينات هي المسئولة عن عملية الشيخوخة، فهي التي تحول الخلايا لأنماط أقل كفاءة وقدرة علي مدار حياة الإنسان مما ينتج عنه أمراض الشيخوخة، لكن البحث الذي نشره عام 1919 عن قدرة الإشعاعات علي تحويل الجينات كان له عدة زوايا خطيرة أدركها العالم جيدًا بعدما أن رأي بأم عينه ما حدث في هيروشيما عام 1945 كان إلقاء القنبلة النووية علي هيروشيما كارثة إنسانية بكل المقاييس، ففي الوقت الذي مات فيه نحو 80 إلف ياباني بعد الإنفجار مباشرة، ونحو 96 ألف إلي 166 ألف تم حسبانهم كضحايا للسلاح الأمريكي في خلال عام من الحادثة المروعة، كان علي اليابانيين أن ينتظروا ميلاد عدد من الأجيال المشوهين جراء تعرض أبائهم للإشعاع في المدن المحيطة. ظل "هيرمان جيه مولر" ينشر البحث الخاص بأضرار الإشعاع والتحولات الجينية الناتجة عنه تنشر علي مدار عشرين عام منذ 1919، ربما لم ينتبه إليها أحد سوي القائمين علي كمشروع "مانهاتن"، وهنا يكمن التساؤل المرير، لما استخدمه الأمريكان كمستشار علمي للمشروع؟، كيف واتتهم الفكرة بأن يدمروا مدينة كاملة بسكانها، ويبقوا الأثر التدميري لسلاحهم عبر أجيال عدة من انتهاء الحرب. أنه لأمر مثير للسخرية أن ينال "هيرمان"جائزة نوبل عن أبحاثه الخاصة بالإشعاع والجينات عام 1946 أي بعد الاستغلال المدمر لأبحاثة في حادثة "هيروشيما" بشهور معدودة. توجه "هيرمان" علي الفور إلي"لندن" لتوقيع البيان الرسمي المشترك المعروف بإسم بيان "راسل و أينشتاين" مع ذمرة كبيرة من العلماء، منهم من اشترك عن غير قصد في إنتاج القنبلة النووية مثل "أينشتاين" و"هيرمان"، ومنهم من كره فقط أن يتم توجيه العلم لتدمير البشر علي هذا النحو. لم تكن هذه هي المرة الأولي التي يقوم فيها "هيرمان جيه مولر" في تحدي سياسة بلاده، فقد سبق وأن اشترك في تحرير الصحف المعادية للرأسمالية، تحول إلي يساري قح في فترة من حياته، خصوصًا بعدما رأي بعينيه تدهور النظام الرأسمالي في مرحلة الكساد الكبير في ثلاثينيات وأربعينات القرن الماضي، كان الإشتراك في مثل هذا النشاط محرمًا بموجب القانون في أمريكا، وكان عليه أن يواصل أبحاثه وعمله السياسي تحت ضغط كبير، كانت فترة سيئة في حياته خسر خلالها زواجه الأول الذي انتهي بالطلاق. ربما كان هيرمان أحد العلماء المثاليين في تاريخ البشرية، ربما كان يفكر كثيرًا كيف سيواجه ابنه "ديفيد" بحقيقة انه اشترك عن غير عمد في كارثة أحاقت بالبشرية، كان عليه أن يواجه وأن يعلم ابنه كيف يكون إنسانًا بمعني الكلمة كما تعلم هو من والديه، لكن الشئ المؤكد أن هيرمان مثال جيد علي كون العلم سيف بنصلين متناقضين، عملة لها وجهان أحدهما رائع و مهم للبشر، والآخر قبيح بما يكفي للقبح أن يكون.