فى مدن مصرية عريقة ارتبطت بالصناعة مثل المحلة وكفر الدوار، تصيبك الصدمة بسبب توقف دوران الماكينات فى كثير من المصانع. وفى مدن جديدة مثل السادات والعاشر من رمضان والعبور، تحولت بعض الأحياء الصناعية إلى أماكن للأشباح، حيث أغلقت المصانع أبوابها أو راحت تعمل بأقل من نصف طاقتها. وما يؤلم فى كل ذلك أن الصناعة التى تعانى أكثر من غيرها هى أعرق وأكبر الصناعات المصرية، الغزل والنسيج والملابس الجاهزة. ونظرا إلى تعثر الدولة فى التصدى لمشكلات هذه الصناعة، فقد بادر رجال أعمال ونقابيون من المحلة الكبرى، قلعة الغزل والنسيج، للدعوة إلى مؤتمر للحوار حول كيفية إنقاذ الصناعة ، يعقد فى المحلة يوم الخميس المقبل. وهذه المبادرة التى سيشارك فى فاعلياتها أطراف الصناعة جميعًا، تأتى بعد أن فشلت الإدارة السياسية فى مصر منذ أوائل التسعينيات حتى الآن فى وقف تدهور هذه الصناعة، بل وكانت سياسات الحكومات المتعاقبة سببا رئيسيا من أسباب تدهورها. وحتى تكون الصورة واضحة، فإننا نتحدث عن صناعة تعيش عليها نحو ثلاثة ملايين أسرة مصرية، ونستثمر فيها أكثر من 50 مليار جنيه، وتشارك بأكثر من 15% من صادراتنا غير البترولية وتسهم بنحو 3% من إجمالى الإنتاج المحلى. وهى صناعة شديدة الصلة بالزراعة، وبالتنمية الحضرية وبتحويل الأرياف إلى مدن. وعلى الرغم من تاريخ مصر العريق فى هذه الصناعة، فإن دولا حديثة العهد فيها سبقتنا بكثير. وتحتل مصر المكانة 38 عالميا فى سوق الملابس الجاهزة، وال27 فى سوق الغزول، بينما الصين وبنجلاديش والهند وتركيا وفيتنام تحتل المراكز الخمسة الأُولى بالترتيب على مستوى العالم. وعلى الرغم من أن أزمة صناعة الغزل والمنسوجات تعود إلى تسعينيات القرن الماضى، حيث توقفت الدولة عن ضخ استثمارات جديدة، وبدأت برنامجًا لبيع شركات القطاع العام، التى بناها عرق المصريين ومدخراتهم، فتقادمت الآلات، وانعدم التجديد التكنولوجى، وانهارت مهارات الأيدى العاملة، وسادت حالة من اليأس بين العمال الذين كانوا يعتبرون هذه المصانع أقرب إلى قلوبهم من بيوتهم، وقد توارثوا العمل فيها أبًّا عن جد. الآن تقف الصناعة فى محنة حقيقية. ويجد العمال أنفسهم أمام تحديات قاسية بسبب تهرب الدولة من إقامة منظومة متكاملة مالية وتكنولوجية وتدريبية وتجارية وعلمية لإنقاذ هذه الصناعة. وتكتفى الحكومة، بسبب الضغوط، فى أحسن الأحوال برصد بعض الأموال لإبقاء الشركات الرئيسية على قيد الحياة. لكنها فى أحيان أخرى تعجز حتى عن توفير القدر الكافى من الموارد المالية لدفع مرتبات العمال والموظفين. ولا شك أن صناعة الغزل والنسيج والملابس والمفروشات فى مصر قد تخلفت وراء مثيلاتها فى العالم، وأصبحت عاجزة عن المنافسة حتى داخل سوقها المحلية، فتراجعت مكانتها عالميا وعربيا وعالميا. كل ذلك بسبب سياسات وإجراءات حكومية قاصرة. وهذا يستدعى الآن أن تتحمل الحكومة مسؤوليتها فى مساعدة هذه الصناعة على النهوض، وذلك بمحاصرة التهريب، وتقديم الدعم الكافى لها فى مجالات التمويل والتدريب والترويج التجارى فى الخارج والتجديد التكنولوجى، ووضع الأطر القانونية السليمة لقيام علاقات شراكة مثمرة مع دول متقدمة عالميا فى هذه الصناعة، خصوصا الدول الخمس الرئيسية ومنها الصين وفيتنام والهند. ونظرا لأن مصر تعانى من تضارب حقيقى فى المصالح بين زراع القطن طويل التيلة وبين منتجى الغزول والمنسوجات من القطن القصير التيلة والألياف الصناعة، فإن الدولة تتحمل مسؤولية رئيسية فى تحقيق التوازن بين أصحاب المصالح المتضاربة. وكذلك الحال فى ما يتعلق بتضارب المصالح بين المنتجين والمستوردين، حيث تستطيع الحكومة من خلال أجهزتها التفاوضية حماية مصالح المنتجين ولو لفترات قصيرة، حتى تتمكن المنتجات المحلية من منافسة مثيلاتها المستوردة. ومع ذلك فإن رجال الصناعة يجب أن يعلموا علم اليقين أن الدولة لا تستطيع أن تقوم بمساندة الصناعة ودعمها للأبد، فهذه مسؤولية تقع على رجال الصناعة أنفسهم. ويجب أن نعلم أن إنتاجية العامل المصرى منخفضة ورديئة النوعية، وذلك بسبب ضعف التدريب، وسوء الإدارة، ونقص قطع الغيار، والوصول إلى حد الانهيار فى منظومة الآلات والتكنولوجيا المستخدمة فى الصناعة. إن منظمات رجال الأعمال وعلى رأسها اتحاد الصناعات والمجالس التصديرية والجمعيات التعاونية الإنتاجية، تتحمل مسؤولية رئيسية فى ما يتعلق بخلق الظروف الملائمة لزيادة الإنتاجية والقدرة على المنافسة. لقد ولت تلك العصور التى اعتمدت فيها الصناعة على الحماية ، وأصبحت كلمة السر الآن هى المنافسة ، وإذا لم يعمل أصحاب المصانع أنفسهم بالتعاون مع الدولة أو بالمشاركة مع منتجين أجانب أكثر تقدمًا، على زيادة القدرة التنافسة لمنتجاتهم، فإن قيمة متزايدة من رأس المال ستتحول يومًا بعد يوم إلى مخزون راكد، بما يحول الصناعة المصرية إلى مجرد حفرية فى كتب تاريخ هذه الصناعة فى العالم. وإننى أرجو أن ينجح مؤتمر الحوار لإنقاذ صناعة الغزل والنسيج، الذى سأشارك فيه مع كوكبة من سيدات ورجال الصناعة والنقابيين والعلماء والخبراء. وهذا النجاح سيكون رهنا بصياغة توصيات إيجابية قابلة للتنفيذ، وليس بمجرد الاكتفاء بإدانة السياسات الحالية أو السابقة.