لقرون طويلة، كان المزارعون في كل مكان يعتمدون على روث البهائم وعظام الهياكل المطحونة لتسميد أراضيهم من أجل زراعة الحبوب والخضراوات التي كانت توفر غذاءً للعالم بأكمله، حتى أتى عالم ألماني في الكيمياء الفيزيائية يُدعى "فريتز هابر" الذي غير وجه الزراعة للأبد. ولكن لنتحدث بالتفصيل عما فعله "هابر" للزراعة والإنسانية بشكل عام، يجب أن نتحدث أولًا عن الرجل ذاته. سيرته الذاتية: وُلد هابر في مدينة بريسلاو ببولندا في التاسع من ديسمبر 1868 التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية الألمانية والمسماة "بروسيا"، والتحق صغيرًا بمدرسة سانت إليزابيث في مدينته وأظهر منذ صغره شغفًا بتجارب الكيمياء في معامل المدرسة. قاد هابر شغفه إلى الالتحاق بجامعة هيدلبرج في عام 1886، ودرس الكيمياء بها تحت إشراف الكيميائي الألماني "روبرت بانسن" ثم انتقل لجامعة برلين حيث تتلمذ على يد الكيميائي الألماني "أغسطس فيلهلم هوفمان"، وأخيرًا في كلية تشارلوتنبرج تحت إشراف "ليبرمان". هذا التدريب والتعلم على يد أساطير الكيمياء في ألمانيا، أدى بهابر لاتخاذ الكيمياء كمجالٍ علمي كرّس حياته له والتي توَّجها بحصوله على جائزة نوبل في الكيمياء في عام 1918. وعمل هابر بعد تخرجه من الجامعة في مشروع كيميائي خاص بأبيه، وفي الوقت نفسه قام بإكمال دراسته في معهد التكنولوجيا في زيورخ تحت إشراف البروفيسور جورج لانج. ولم يكن هابر متأكدًا بعد من رغبته في تكريس ذاته للكيمياء أو الفيزياء، حتى أتى عام 1894 وعمل مساعدًا أكاديميًّا في معهد كارلسروه التقني في ألمانيا وبقي فيه حتى عام 1911، إلى أن تم استدعاؤه ليرأس معهد القيصر فيلهلم المنشأ حديثًًا للكيمياء الفيزيائية والكهربية الذي بقي في رئاسته إلى عام 1933، حيث استقال اعتراضًا على قوانين حكم النازي للتفرقة العنصرية. تم نفيه بعد ذلك إلى إنجلترا حيث عمل في معمل وليام بوب في جامعة كامبريدج، حتى توفى لاحقًا في بازل بسويسرا بسبب أزمة قلبية في التاسع والعشرين من يناير في عام 1934. أبحاثه وشغفه بالكيمياء: كان شغف هابر المبكر بالكيمياء يتركز على التطبيقات الصناعية للكيمياء، حيث ركز على التطبيق والتطوير للنظريات العلمية الصرفة، وتأسست أعماله الأولى على الطبيعة الكيميوفيزيائية للألسنة الناتجة عن الاحتراق التي أدت إلى نشره كتابه الأول بعنوان "تجارب عن التحلل والاحتراق" في عام 1896، الذي أثبت قيمته لاحقًا في توضيحه العملية الكيميائية في تكرير وتكسير البترول. ومنذ ذلك الحين وحتى عام 1908، كان هابر مستمرًا في كفاحه حيث أتى بنظريات جديدة للتطبيقات الكيميائية الصناعية بالبحث في المكونات العضوية مثل النيتروبنزين والخلايا التي تكون البترول والقطب الكهربائي الزجاجي، الذي أدى إلى نشره كتابه الثاني عن الكيمياء الكهربية في عام 1910 وكتبه بالتعاون مع الكيميائي الألماني أليكسندر موسر. وبعد أن أطلق العالم البريطاني "ويليام كروكس" تحذيرًا في عام 1898 أن الطلب العالمي على الغذاء سوف يصبح قريبًا أقل من المنتج الزراعي إلّا لو تم استخدام السمادات النيتروجية في زيادة المحاصيل الزراعية. ويرجع السبب في هذا إلى عدم تحويل النيتروجين الذي يوجد في الهواء بنسبة 78 %- عند تغذيته للنبات - لمركب يذوب في المياه مثل الأمونيا أو النترات. وهذا أدى إلى أن يأتي هابر في عام 1908 بعملية تصنيع الأمونيا من غاز النيتروجين في الهواء باستخدام الضغط العالي وبمساعدة المحفزات، وأدت هذه العملية لتغيير وجه حرفة الزراعة بشكل عام للأبد. وأتى في العام التالي 1909، عالم ألماني آخر يسمى "كارل بوش" الذي قام بتحويل هذه الفكرة على نطاق صناعي واسع فيما عُرف بعد ذلك باسم عملية هابر- بوش، وهي عملية تصنيع الأمونيا مباشرة من النيتروجين والهيدروجين لإنتاج السماد الصناعي للزراعة. وفي عام 1911، تم بناء أول محطة تصنيع للأمونيا في لودفيجسهافن التي أصبحت تنتج 30 طنًا في اليوم بحلول عام 1913. هذا الكشف العلمي الضخم أدى لحصول هابر على جائزة نوبل في الكيمياء عام ،1918 تقديرًا للكشف العلمي الذي غير صناعة الزراعة والغذاء للأبد حيث لبى احتياجات مليارات البشر حول العالم من الغذاء. الحرب الكيميائية وإبادة البشرية: ولكن بحلول الحرب العالمية الأولى، تحول هابر من تكريس جهوده لخدمة الإنسانية إلى إيذائها ومحاربتها، حيث كرس مجهوده بشكل تام لتلبية احتياجات ألمانيا الحربية من أسلحة كيميائية والبدائل المُصنعة وحفر اسمه في صفحات التاريخ المظلمة بمجهوداته في تطوير الأسلحة الكيميائية. وكان معظم بحث هابر العلمي في تلك الفترة يتعلق بتكرير الأمونيا الصناعية، الذي تم ضمه إلى أبحاث العالم الألماني "فيلهلم أوتسوالد" في أكسدة الأمونيا وتحويلها إلى حمض النيتريك، وهذه العملية أدت لتطوير المتفجرات والأسلحة الكميائية المستخدمة في الحروب الحديثة على الرغم من حظرها بمعاهدة جنيف الصادرة في 1907 التي قامت ألمانيا بالتوقيع عليها. وساهم هابر أيضًا بتطوير غاز الكلورين المستخدم في الحروب الكيميائية بناء على طلب السلطات العسكرية الألمانية آنذاك لتطوير الغازات المسيلة للدموع، وساهم في ترتيب أول هجوم بالغاز القاتل في فرنسا وأدى هذا لظهور أسلحة الدمارالشامل على نطاق واسع. بالإضافة إلى ذلك، فإن هابر كان مسئولًا عن تأسيس شركة "ديجيش" الألمانية التي أنتجت بعد ذلك بعقدين غاز "زيكلون بي"، والمشتق من سينايد الهيدروجين الذي يسمى أيضًا بحمض البروسيك واستخدم لاحقًا في أفران الغاز في محارق الهولوكوست. وأدى هذا لأن يتعرض هابر لانتقاد شديد لمجهوداته في تطوير الأسلحة الكيميائية، بل قامت زوجته "كلارا إيمرواهر" بالانتحار اعتراضًا على دوره المخزي في الحرب الكيميائية باستخدام مسدس يمتلكه عام 1915. وفي الصباح التالي لانتحارها، قام هابر بترك منزله ليرتب أول هجوم بالغاز السام ضد الروس في الجبهة الشرقية. ومع ذلك، فقد فاز بجائزة نوبل في الكيمياء في 1918 لجهوده في عملية تصنيع الأمونيا التي ساعدت في إنتاج الغذاء الزراعي على نطاق واسع للغاية.