حتى المشغولون جدا بقضايا الحق والخير، كالأنبياء، لم يملكوا رفاهية الاستغناء عن الجمال. من جاء فى أقوام تعشق الحكايات حمل معه كتابا جميلا فى أدب الحكايات، ومن بعث إلى أقوام يحبون الشعر جاء فى يده بكتاب جميل فى فن الخطابة. ومارتن لوثر حين بدأ دعوته، تنازع مع الكنيسة الكاثوليكية، فى ما تنازع، على السلم الموسيقى، على ما يجوز وما لا يجوز من قواعد الانتقال بين «دو رى مى فا صول لا سى دو». وقتها، كانت الكنيسة تحتكر المعايير الفنية الموسيقية. بينما عمد مارتن لوثر إلى استخدام الأنغام الفولكلورية فى ترنيماته البسيطة، المكتوبة باللغة الألمانية، لكى يجعلها أقرب إلى الناس. ومن ثَم يستخدمها وسيلة لنشر دعوته. و«الحركة البشرية» التى وقفت فى وجه تسلط الكنيسة الأوروبية، بداية من القرن السادس عشر لم تكن فى مجملها حركة «دينية»، تخوض نقاشات حول العقيدة، ولا اقتصرت على حركة العلوم والفلسفة وتطورها، بل كانت أيضا حركة فنية، تطور فيها الفن التشكيلى، فلم تعد اللوحات قاصرة على تسجيل «القصص الدينى»، ولا على تخليد الشخصيات الدينية، بل بدأت تتجه أيضا إلى القصص الإغريقى، ثم إلى بورتريهات النبلاء، ثم إلى تسجيل أحداث يومية عادية، ثم إلى رسم بورتريهات لأشخاص عاديين. كانت الموسيقى، والفن التشكيلى، والكتابة -على أيدى أدباء كشكسبير وسرفانتس- قاطرة الدفاع عن حق البشر فى التفكير والتعبير عن أنفسهم على تنوعهم. بدل من صورتهم السابقة كأنماط سالفة التصنيف. كان الفن المدافع الأول عن قيمة الإنسان، وقيم مشاعره، وقيمة رغباته، بعد قرون من اعتبار الفرد العادى كمًّا مهملا، لا يبالى التاريخ به. الفن إعلان يقول إن الكائن البشرى قادر على الإبداع، وعلى الابتكار، وعلى التميز فى رغباته عن غيره من الحيوانات. كان الفن انتصارا لإحساس الفرد بذاته محورا يدور العالم حوله. والأهم، لقد كان الفن -كعادته- سابقا لأى تنظير فكرى. ما من مجتمع إلا وفيه فنون راقية وفنون هابطة. لكن من الذى بيده تحديد ما الراقى وما الهابط؟ ندرك، لكننا ننسى ونتناسى، أن الفن تعبير بلا رتوش عن أى مجتمع، وأن «هبوط» الفن فى مجتمع تعبير عن هبوط الذوق فى ذلك المجتمع، وليس تعبيرا عن كون الفن بطبيعته داعيا إلى «الرذيلة». أفسّر: ما من حركة شمولية (تدّعى إحاطتها بمعرفة كل ما يصلح حال الإنسان) إلا استهدفت -ضمن ما استهدفت- الفن، والقيم الجمالية. هؤلاء الشموليون يجدون فى الفن حلقة ضعيفة. أولا لأن الناس «تقدر تعيش من غيره»، وثانيا لأنه، كإنتاج بشرى، فيه من الابتذال كما فيه من الروعة (أوَليس هكذا الإنسان؟). ولذلك يبدؤون به، مطمئنين إلى أن منتجى الفنون فى كل مكان أقلية، يسهل الدعاية ضدهم، ويسهل «فضحهم»، وتأليب الناس عليهم. لكن الفن لم يغب عن مجتمع إلا استشرى فيه القبح. انظرى إلى القاهرة ومصر دليلا. الجمال فى القاهرة تحول من بؤرة جميلة، ضئيلة، مركزية، تتسع بالتدريج فى النصف الأول من القرن الماضى، إلى حيوان أليف مهمَل تتكالب عليه حيوانات القبح الشرسة من كل اتجاه منذ الخمسينيات حتى الآن. نفس قصة الفن والإبداع.. خطوة بخطوة، وكتفا بكتف. (ملحوظة: الفن المصرى كان مزدهرا فى الخمسينيات والستينيات بفعل القصور الذاتى، لكن الحقيقة أن عوامل نخر الإبداع كانت تنشط درجة درجة خلال هذه الحقبة، حتى بدأ أثرها فى الظهور بداية من السبعينيات). إن كنت فنانة، فلا تستخفِّى بموهبتك، من أول التريكو إلى تصميم الصواريخ، ولا تحرمينا منها، ولا تستمعى إلى من يحقرون من قيمتها. قد تكون هذه الموهبة الشىء الوحيد، الوحيد، الذى سيسعدك فى هذا العالم، ويسعد العالم بك.