«1» تعلمنا صغارا أن الأسس الثلاثة التى تبنى عليها المجتمعات هى: الحق، الخير والجمال. لا أدرى إن كانت الجملة الشائعة مرتبة هكذا لغرض، أم لمجرد مناسبة الوزن الموسيقى، بمعنى أننى لا أدرى إن كان الحق يجب أن يأتى أولًا، بينما يأتى الجمال أخيرا، أم أن الترتيب لا يهم. على كل حال، ثمة «استهياف» لا أدرى منبعه لما يتعلق ب«الجمال» فى سلم أولويات المجتمعات. ثمة إيحاء بأن الحق والخير ركنان يستحقان العناية، أما الجمال فرفاهية لا داعى لها، وترف لا يلتفت إليه إلا من لديهم فراغ وقت، وفائض أموال، وراحة بال. رغم أن المتتبعة للتاريخ تجد أن الصراع على الجمال لم يقلّ يوما أهمية عن الصراع على الحق والخير، بل إن الحق والخير الملتفحين بالقبح -على مر التاريخ- مزيفان، وينطويان فى حقيقتهما على استبداد ونزعة سلطوية انتقامية، سرعان ما تعبر عن نفسها فى ممارسة السياسة. فنجد أن ما بدأ بعدم اكتراث بالجمال تحول إلى عدم اكتراث بالحق ولا بالخير. وما بدأ بعدم اكتراث بالجمال تحول إلى سلطوية «محدثى النعمة ومحتكريها»، وهى سلطوية بلا ملمح واحد مليح يخفف من وطأتها، سلطوية الطبقات التى لا تنتج فنا. من يبدأ بالاستغناء عن الجمال، لعدم قدرة أو لعدم إدراك، لا يلبث عدم القدرة هذا وعدم الإدارك ذاك أن ينتقل معه إلى الحق والخير فيقضى عليهما. الجمال هو إحساس الإنسان بقيمته، ومجال قدرته على إظهار إبداعه وتميزه. ما من حضارة أهملت الجمال إلا أهملت الفرد. ما من حضارة أهملت الفرد إلا قصرت مفهوم الجمال على البذخ، فى أوساط القادرين على البذخ. «2» فى هذه الثلاثية المصوغة قديما، فإن الجمال هو بديل الحرية الفردية، وهو النائب عن الخيال، وعن النزعة الفردية، وعن تعبير الإنسانة عن نفسها بطريقتها الخاصة. وليس مصادفة أن أول ما يهمل فيه الإنسان إذ يكتئب هو جماله الشخصى، ومظهره. وليس مصادفة أن هذا الإهمال مرآة ل«سقم الروح» فى هذه المرحلة. إن فى ذلك إشارة إلى أن المفاضلة بين «جمال الظاهر» و«جمال الباطن» مفاضلة واهية. هناك تكامل للظاهر والباطن، والمحصلة النهائية للجمال ناتجة عن جمع الاثنين، لا طرحهما. «3» وأكثر درجات الجمال بدائية تأتى مع النظافة، والنظام، والترتيب. ثم يرتقى مفهوم الجمال ليصير الحرص على الجمال موجودا حتى فى العشوائى. وقد زرت مدينتى سيجوفيا الإسبانية وكارتاخينا (بلد جابرييل جارثيا ماركيز) الكولومبية خلال العام الماضى. فانبهرت بحرص هاتين المدينتين الفقيرتين، اللتين مرَّتا بعصور استبداد وإهمال، انبهرت بحرصهما على الجمال، والألوان المنطلقة، المسكونة بالبهجة والصخب. قلت لنفسى إن هاتين حضارتان موسيقيتان، ومهتمتان جدا بالفنون البصرية، ومن ثم لا غرابة فى أن يستمر هذا رغم الضنك. قلت لنفسى إن اهتمام حضارة ما بالجمال حائط صد ضد التدهور الماحق، ضد انتقاص الإحساس وصولا إلى العدم. ولو وصل الإحساس إلى العدم هل تظنين أن الإنسان، أو السلطة، سيكترثان بحق أو خير؟ ولم أستطع إلا أن أقارن مدينتين كتلكما. إحداهما فى قارة فقيرة تماما، مرت بظلام يشبه ما مررنا به، بمدينتين كدمشق والقاهرة، قامت فيهما منذ عقود ثورتان من أجل الحق والخير والعدالة وكل تلك القيم السامية، لكنهما لم تباليا بالجمال، ولو فى أبسط صوره -النظافة- فتدهورتا إلى مستوى من القبح لم يعد بمقدور الحق والخير التسامح معه، ولا معايشته، فرحلا عن حياتنا. قلت لنفسى إن الطبيعة -بالطبيعة- جميلة. الزرع على بساطته، والصحراء على قسوتها، والبحر على جنونه، والجبال على حدتها، لكن البشر المكتئبين والحضارات الكئيبة، يتلفونها. قلت لنفسى إن ساكن البناية الذى يأخذ معه كيس القمامة ليلقيه فى مكان متوارٍ أو ظاهر من الشارع، والذى لن يكترث طبعا إن فعل جاره نفس الشىء، وإن الفتاة التى لا تهتم بنفسها، والرجل الذى -دون سبب طبى- لا يعنيه أن يتحول جسمه إلى ما يشبه أنبوبة البوتاجاز. قلت لنفسى إن كل هؤلاء ما هم إلا أدلة حية على ما يفعله القبح، قبح الاستبداد، وقبح التنطع، وقبح احتقار الإنسان، بالإنسان. الجمال صحة. الجمال فكر. الجمال من الإيمان بنفسك. فلا تحتقريه، ولا تصدقى من يحتقره!