وكان إيهاب أنور أحد أكثر اللاعبين حرفنة فى كرة القدم ممن رأيت فى حياتى، لا يوازيه موهبة إلا ماجد، زميله فى نادى «بلدية أسيوط». لكن لا إيهاب ولا ماجد أكمل المشوار، لم يفعل ذلك من الفريق إلا لاعب يصغرهما بسنوات فى نفس النادى هو كابتن النادى الأهلى السابق هادى خشبة. لكن نشاطات إيهاب لم تكن مقتصرة على كرة القدم وحدها، فقد كان نشطا بالفطرة، فى وقت لم يكن لدى الأطفال فيه إلا القناة الأولى والثانية، ونصيب الأطفال منهما سينما الأطفال مع ماما عفاف الهلاوى، ثم ماما نجوى إبراهيم، وبقلظ. إيهاب ابن الأستاذ أنور عبد الوهاب، مدرس التربية الفنية الذى نال جائزة المدرس المثالى فى محافظة أسيوط، ورث عن أبيه قدراته الإبداعية، واستفدنا منها نحن، الجيل الأصغر منه. نظم إيهاب دورات رمضانية فى كرة القدم شاركنا فيها، ونظم لنا رحلات أسبوعية على الدراجات إلى حمام السباحة. وكان يصطحبنا إلى قصر ثقافة أسيوط، المكان الرائع الذى تعلمت فيه أختى الموسيقى واستمرت فيها وشاركت من خلاله فى حفلات ضمن فريق المحافظة، كما مارست فيه الأشغال الفنية بالصلصال والقص واللصق. وشاهدنا فيه قصص الأطفال العالمية من خلال صندوق الدنيا. فى الطرقة الواسعة المقابلة لشقق الطابق الأرضى فى عمارتهم المقابلة لعمارتنا استخدم إيهاب ملاءات سرير وأنشأ مكتبة خاصة بأطفال الحى ومن شاء من أصدقائهم، كنا ندفع قرشا رسم دخول لكى نقرأ ما نشاء من الكتب الموجودة فى المكتبة التعاونية، وعندما أسهمنا أنا وأختى بكتبنا صار من حقنا استخدام المكتبة دون رسم دخول. وحين اشتكى الجيران من الإشغال واصلنا عادة تبادل الكتب على أن نقرأها فى بيوتنا. ونظم لنا إيهاب يوما مفتوحا كان موعده الأحد من كل أسبوع. حيث كنا نجلس على درج السلم بينما يؤدى بعضنا عروضا طفولية فى نفس ساحة العمارة التى كانت موضع المكتبة. لست من أنصار المفاضلة بين الأجيال، لكننى أتوق لوقت كانت القراءة فيه جزءا لا يتجزأ من حياة الأسرة المصرية. وكان الأطفال يتباهون بعدد الكتب التى قرؤوها، وجودة الأشغال التى صنعوها بأيديهم. المهارات المكتسبة من ألعاب الفيديو جيدة جدا هى الأخرى، لكن حبذا لو تلازمت مع المعرفة التى تقدمها الكتب، ومع الخيال الذى ينتجه القارئ حين يقرأ كتابا، والخيال الذى يخلقه حين يشتغل بيديه ويبدع شكلا يعبر عن شىء ما فيه. وصدقونى فإن الإنسان لا يعرف ما فى نفسه، فما بالك بالآخرين. هنا يأتى الفن، حين تعجز كل الوسائل الأخرى عن التعبير عن كل ما فينا. حين تنظرين إلى لوحة لا تشغلى نفسك كثيرا ب«قراءتها» ومعرفة ما يريده مبدعها، انظرى لها كما تنظرين إلى فستان أو قميص فتشعرين أنه يعنى لك شيئا، أو حتى كما تنظرين إلى شىء يراه الناس بشعا بينما ترين أنت فيه شيئا مستحقا للانتباه. لا شىء يوسع الأفق أفضل من فن أصيل. وأصيل هنا لا أعنى بها الكلمة التى نستخدمها فى اللغة الدارجة للتعبير عن القديم الجيد، بل أعنى به ما لا يشبه غيره، ولو فى تفصيلة صغيرة للغاية. لم أر إيهاب منذ سنوات طويلة، لكننى أتذكره كوزير للثقافة، وللرياضة، فى حينا الصغير. وأعتقد أن حينا الكبير لن ينهض بثقافته إلا حين نشغل نفسنا بهذا السؤال البسيط: كيف نجعل الثقافة والأنشطة جزءا من حياتنا اليومية مرة أخرى؟ كيف نشجع أطفالنا على القيام بمشروعات ثقافية صغيرة تمتعهم وتنمى مهاراتهم بعيدا عن المحاضرات التعليمية التلقينية؟ كيف نقتنع نحن بأن الفن ليس رفاهية مطلقة، بل إنه الدافع الحقيقى وراء الاختراعات والابتكارات وتقديم الحلول، لأنه، ببساطة، الدافع الأكبر نحو تشغيل الخيال؟ متى نقنع مدرس التربية الفنية ومدرس التربية الموسيقية ومدرس الأنشطة فى المدارس بأن مادته بأهمية الفيزياء والكيمياء والأحياء؟ متى نقنع رئيس الحى بأن من حق الطفل مهما كان دخل أبويه أن يكون له مكان يخرج فيه طاقاته؟ متى نقتنع بأن الطالب الموهوب فنيا جدير بالرعاية والاهتمام والتنمية أكثر من الطالب «الصمّام» الذى يبلع الكتاب ثم يجتره فى ورقة الامتحان؟