رغم أن العالم أجمع شاهد الرئيس المصرى المخلوع حسنى مبارك راقدا فى قفص الاتهام مع نجليه فى مشهد هو الذى سيبقى للتاريخ بعد ثلاثين عاما من الحكم الاستبدادى الفاسد، هذا المشهد التاريخى لمبارك وأولاده جاء بعد ثورة عظيمة قام بها الشعب المصرى، ما زالت بحاجة إلى دراسات معمقة حتى تأخذ مكانتها فى التاريخ، ورغم ذلك فإن كل المعطيات القائمة على الساحة السياسية المصرية تؤكد أن رجال مبارك الذين تولى نظامه الفاسد إعدادهم ورعايتهم طوال الثلاثين عاما الماضية هم الذين يحكمون سيطرتهم على معظم شؤون البلاد، بل يديرون مصر بنفس الطريقة التى كانت تدار بها من قبل، مما يهدد مستقبل هذه الثورة ويعيق تحقيق أهدافها، ويكفى أن يطلع أى شخص على السلوكيات اليومية للأجهزة والمسؤولين فى القطاعات المختلفة فى الدولة المصرية ليدرك أن رجال مبارك ما زالوا يحكمون مصر ويحاولون إعادة السيطرة على كل مقدرات البلاد من خلال الالتفاف على كل شىء أحيانا بالتحايل وكثيرا بالمواجهة والوقاحة المتناهية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، مثل الظهور الإعلامى المكثف لرجال مبارك على شاشات الفضائيات المصرية خلال شهر رمضان ووقاحة كثير منهم باستمرار الدفاع عن الرئيس المخلوع ونظامه تحديا كبيرا لمشاعر الشعب المصرى ولثورته ولشهدائه وتضحياته، وكان واضحا أن هذا الظهور مدروس بعناية وليس عشوائيا، وإذا أدركنا أن معظم ملاك الفضائيات التى توصف بأنها مستقلة كانوا جزءا من النظام السابق، وأن أحدا منهم لم يحصل على تصريح فضائيته إلا لكونه جزءا من النظام الفاسد السابق، أدركنا سر الظهور المنظم والمكثف لرجال مبارك على هذه الفضائيات، بل واستمرارها بنفس ملاكها كحماة للنظام الفاسد ومروجين لرجاله. المشهد الثانى هو أن معظم أو كل التعيينات التى تتم فى المناصب الرئيسية فى الدولة سواء من الوزراء أم المحافظين أم غيرهم، تتم لرجال عرفوا بأنهم كانوا جزءا من النظام الفاسد، كذلك رفض الحكومة إقالة رؤساء الجامعات المعينين من قبل أمن الدولة وتحدى أعضاء هيئة التدريس فى الجامعات وفرض نظام انتخابى جزئى وليس شاملا، وكذلك رفض إقالة كثير ممن عرفوا بالفساد فى كثير من مؤسسات الدولة، بل والتمسك بهم دليل على أن النظام السابق ما زال يحكم بقوة ولن يتخلى بسهولة عن أى موقع، بل يريد تهيئة مصر ما بعد الانتخابات لتبقى فى أيدى الحفنة التى أفسدت وطغت، أمر آخر يتعلق بالملفات التى أعدتها النيابة فى القضايا المتهم فيها الرئيس المخلوع وكبار رجاله، والتى أكد كثير من رجال القانون أنها ملفات فارغة ستدفع القضاة للحكم بالبراءة لعدم كفاية الأدلة أو عدم اكتمال التحقيقات، أو إصدار أحكام هزيلة لا تتناسب مع حجم الجرائم التى ارتكبت ويكفى أن كل الفاسدين لم يتم التحفظ على أموالهم وتدار شركاتهم كما أن أموال الشعب ما زالت تصب فى خزائنهم دون أى تحرك جاد ضدهم، أيضا ما نشر فى 27 أغسطس عن رفض أحد ضباط الداخلية منصب رئيس مباحث بمديرية أمن القليوبية بعدما أعلن أن وزارة الداخلية ما زالت تستعين بالبلطجية ومسجلى الخطر فى عملها، دليل قاطع على أن هناك طابورا خامسا فى وزارة الداخلية، بل طابورا قويا يدفع باتجاه استمرار الفوضى فى البلاد، ولعل الفوضى القائمة فى الشوارع وما يحدث من عمليات سطو فى وضح النهار أو الليل داخل العاصمة القاهرة دليل على عملية الانفلات الأمنى التى لا يمكن أن تخرج عن وجود أيدى رجال مبارك الفاسدين. السؤال الأهم الذى يوجه لوزير الداخلية، بل ولكل قادة الأحزاب والقوى السياسية التى تسعى للمشاركة فى الانتخابات البرلمانية القادمة كيف يسمح هؤلاء بأن يكون من بين اللجنة العليا للانتخابات رجال كانوا رأس النظام السابق فى عملية التزوير التى جرت فى الانتخابات السابقة، سواء ما يتعلق منها بالقوائم أو العملية الانتخابية نفسها، والعجيب أن هؤلاء يظهرون فى الندوات والحوارات التليفزيونية ويتحدثون وكأنهم كانوا من الأشراف وهم لم يكونوا سوى من الفاسدين المزورين الذين تجب محاكمتهم، ولعل هذا هو أخطر ما يهدد الثورة من أن توكل العملية الانتخابية أو يشارك فيها أناس مزورون فاسدون، وفى هذا الإطار أيضا سعى بعض الأحزاب الهامشية التى لا قيمة لها لاستقطاب بعض رموز النظام الفاسد السابق من أصحاب العصبيات أو رجال الأعمال لترشيحهم على قوائم هذه الأحزاب، وهذا اختراق مهين للثورة من قبل أحزاب كرتونية كانت على مدار السنوات الماضية جزءا من الديكور السياسى للنظام الفاسد، حتى إن أحد الأحزاب التى توصف بأنها ليبرالية أدخل سبعين من قيادات الحزب الوطنى المنحل ليرشحهم على قوائمه. إنى أتعجب كثيرا لانشغال كثير من المصريين بأمور تافهة واستغراقهم فيها، بينما الثورة تسرق بانتظام ورجال مبارك يتغلغلون داخل كل مؤسسات وأركان الدولة تماما، كما فعل رجال شاوسيسكو فى رومانيا فبعد سقوط النظام ومقتل شاوسيسكو وزوجته بقى رجاله يحكمون ربما إلى الآن، لأنهم كانوا هم الأكثر تنظيما وتعليما وإلماما بإدارة دواليب الدولة ورصوا صفوفهم وحشدوا أنفسهم فى كل المواقع ودعموا بعضهم بعضا فى كل المجالات وسيطروا على المواقع المؤثرة فذهب شاوسيسكو وبقى رجاله يحكمون، ونحن نخشى أن يذهب مبارك ويبقى رجاله يحكمون، بينما الشعب ضحى وقام بثورة من أجل أن يجنى ثمارها المفسدون، فهل يفيق الشعب المصرى وما يسمى بالنخبة السياسية الوطنية أم يظل الجميع يتراشقون الاتهامات ويركزون على توافه الأمور، بينما رجال مبارك يرصون صفوفهم حتى يستمروا فى إحكام قبضتهم على مقاليد البلاد.